بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
ثُمَّ إِنَّ اللَّه سُبْحَانَه بَعَثَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بِالْحَقِّ حِينَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الِانْقِطَاعُ، وأَقْبَلَ مِنَ الآخِرَةِ الِاطِّلَاعُ، وأَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ، وقَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ، وخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ، وأَزِفَ مِنْهَا قِيَادٌ، فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا، واقْتِرَابٍ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وتَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهَا، وانْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا، وانْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا، وعَفَاءٍ مِنْ أَعْلَامِهَا، وتَكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا وقِصَرٍ مِنْ طُولِهَا.
جَعَلَه اللَّه بَلَاغاً لِرِسَالَتِه، وكَرَامَةً لأُمَّتِه، ورَبِيعاً لأَهْلِ زَمَانِه، ورِفْعَةً لأَعْوَانِه، وشَرَفاً لأَنْصَارِه([1]).
شرح الألفاظ الغريبة:
الاطلاع: الإتيان، اطلع فلان علينا، أي أتانا؛ خشونة المهاد: كناية عن شدة آلام الدنيا؛ أزف: - كفرح – أي قرب، والمراد من القياد انقيادها للزوال؛ الأشراط: - جمع شرط كسبب – أي علامات انقضائها؛ التصرم: الانفصام: الانقطاع، واذا انفصمت الحلقة انقطعت الرابطة؛ انتشار الأسباب: تبددها حتى لا تضبط؛ عفاء الأعلام: اندراسها([2]).
الشرح:
...لما بين فضيلة [محمد صلى الله عليه وآله وسلم] أمر بتعظيمه واتباعه وأداء حقه وهو العمل به مع اعتقاد شرفه وكونه مؤديا إلى الجنة، ثم بوضعه مواضعه وهي القلوب لا الألسن والشعار الظاهر فقط.
ثم لما فرغ من ذلك شرع في فضائل من بعث به ليذكرهم نعمة من الله بعد نعمة، وقرن ذكره بذكر أحوال الدنيا حين البعثة ليظهر شرفها:
أ- كونها قد ((دنا انقطاعها وإقبال الآخرة واطلاعها))، وقد بينا ذلك في قوله: ((ألا وإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع))، وعلى الجملة فيحتمل أن يريد قرب انقطاع الدنيا وزوالها بالكلية وحضور الآخرة والقيامة الكبرى كما عليه ظاهر الشريعة ويحتمل أن يريد قرب انقطاع دنيا كل أمة منهم وحضور آخرتهم بموتهم وانقراضهم؛ ولفظ الاطلاع استعارة كما سبق.
ب- كونها قد ((أظلمت بهجتها بعد إشراق))، وأراد إشراق بهجتها بأنوار الأنبياء السابقين وضياء الشرائع، وإظلامها حين بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم باندراس تلك الآثار وفسادها.
ج- ((قيامها بأهلها على ساق))، كناية عن ظهوره شدائدها وإثارة الفتن بين أهلها وما كانت العرب عليه من الخبط والاختلاف في الحروب والغارات المؤدية إلى الفناء.
ذ- ((خشونة المهاد منها))، وكنى به عن عدم الاستقرار بها وطيب العيش فإن ذلك إنما يتم ويتعدل بنظام الشرائع والنواميس الإلهية.
هـ - ((وأزف منها قياد)) أي قرب منها انقياد للانقطاع والزوال والانخراط في سلك التقضي واقتراب علامات ذلك منها، وعلامات زوالها هي علامات الساعة وأشراطها، وكذلك تصرم أهلها وانفصام حلقتها، وكنى بالحلقة عن نظامها واجتماع أهلها بالنواميس والشرائع وبانفصامها عن فساد ذلك النظام بانتشار سببها عن فساد أسباب ذلك النظام؛ فإن أسباب التصرف النافع فيها إنما يتم بالنواميس الشرعية وقوانينها، واستعار لفظ أعلامها للعلماء والصلحاء بها وكان عليهم العفاء حينئذٍ، وكذلك بعوراتها عن وجوه الفساد فيها، وبتكشفها عن ظهورها بعد اختفاء، وذلك القصر من طولها فإن الدنيا إنما يكون طولها ودوامها عند صلاحها بالشرائع فإذن قصرها يكون عند فسادها وعدم النظام الشرعي.
ثم رجع إلى تعديد فوائد بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
أ- إن الله تعالى جعله بلاغاً لرسالته وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}([3]).
ب – وكرامة لأمته لكونه داعياً لهم إلى الكرامة الباقية التامة وسبب للكرامة.
ج- وربيعاً لأهل زمانه، واستعار لفظ الربيع له، ووجه المشابهة كونه بهجة للمسلمين وعلمائهم وسبباً لبطنتهم من العلم والحكمة كما أن الربيع سبب لبهجة الحيوان بمراعيها وبطنتهم وسمنهم.
د- ورفعة لأعوانه: أي لأعوان الله وأنصاره وهم المسلمون وظاهر كونه صلى الله عليه وآله وسلم سبب رفعتهم وشرفهم([4]))([5]).
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة لصبحي صالح: 314- 315/ ضمن الخطبة رقم 198، ونهج البلاغة للشيخ العطار: 420/ ضمن الخطبة رقم 196، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 445/ ضمن الخطبة رقم 189، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 437.
([2]) شرح الألفاظ الغريبة: 660.
([3]) سورة المائدة، الآية: 67.
([4]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 456-458/ شرح الخطبة رقم 189.
([5]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 263-266.