بقلم: محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان
((الحمد لله وإن أتى الدّهرُ بالخطب الفادحِ، والحدثِ الجليلِ، وأشهدُ أن لا إله إلّا الله ليس معه إله غيرهُ وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله))
أما بعد
يبين عليه السلام في هذه الحكمة أموراً قد تخلى عن التمسك بها الكثير من الناس لحسبانهم أنها من الماضي الغابر الذي لم يعد نافعاً في عصرهم فأراد عليه السلام إعادة الرونق والنضارة لها والكشف عنها بما يجعل المتصف بها عارفاً بأهميتها وقيمتها المعنوية.
1- العقل: إذا تم للإنسان أن يدرك الأشياء بواسطة (نور روحاني به تدرك النفس مالا تدركه بالحواس)([1]) فإنه سيتمكن من معرفة الأشياء المواجهة معرفة أقرب ما تكون للصواب والدقة ويكون قوياً في إصدار الأحكام والجدل في القضايا لأنه يستند إلى ذلك المصدر الوثيق الذي يكشف عن الأمور كشفاً دقيقاً فإذا كان كذلك فهو غني بفكره ومصدر تحريكه للأمور فلا يشكو عوزاً في استيعاب القضايا حتى لو كان فقيراً بالحسابات المادية ولغة الأرقام لأن العقل يهديه لاستحصال المال – المشروع طبعاً – بينما الذي يحوز المال الكثير وهو مفتقر للعقل لا يمكنه – دائماً – الاستهداء لشيء أو حل مشكلة بواسطة المال، وإذا لأمكنه ذلك فهو بواسطة شراء العقول والاعتماد عليها فهو فقير عقلياً وأن حسب نفسه ممن يملك عقلاً. وفي هذه الفقرة من الحكمة تسكين لآلام الفقراء ذوي الطاقات المبدعة وشد على سواعدهم ليتواصلوا في كفاح الحياة ليحققوا الاجازات الممكنة وأن تجاهلهم الأغنياء فهم ينتظرون من الإمام عليه السلام هذه اللفتة والتقدير لا أحد سواه.
2- الجهل: ضد العلم بالشيء وهو من المعلومات الواضحة. وقد تبين مما تقدم أن الجهل يعني الحاجة والعوز وعدم الكفاية، وذلك باعتبار المقابلة بين العقل الذي يعني العلم والانفتاح والمعرفة، وبين الجهل الذي هو مقابلها ولذا كان في اختيار التقابل بين كلمتي الغنى والفقر وبين كلمتي العقل والجهل – كان – حسناً بلاغياً له أثره اللطيف في ربط المعاني وإيصالها إلى الذهن بحيث يتأثر السامع ليقتنع بها.
فالجاهل ولو كان غنياً بلغة الأرقام والمقتنيات، هو الفقير حقاً والمحتاج واقعاً. ولا يحسبن في وقت يمر عليه أنه من الأغنياء لأن الغنى الصحيح هو الثراء العقلي لأنه الذي يقوم الأمم ويهدي الشعوب ويحقق الآمال ويهدف إلى تحقيق المنافع وتوسيع قاعدة المصالح وليس ذلك كله بالمال وأن تم بعضه بالمال فهو باعتباره أحد الوسائل لا أهمها.
3- الأدب: أن يكون لدى الفرد محاسن الأخلاق ومكارمها وأن يتعود فيتطبع على ذلك بحيث ينشأ ويظل على ذلك التطبع حتى يكون طبيعة من خصائصه الذاتية.
ومن هذا الشـرح المبسط للأدب المقصود في الحكمة هنا يتضح وجه أنه خير ما يورثه الإنسان لأبنائه والجيل الناشئ من بعده لأنه يغذيهم المحاسن والمكارم ويربيهم حتى يتعودوها وتكون شيئاً عادياً وطبيعياً ومن دون كلفة عليهم بل ينطلقون فيه من أرض القناعة والتصديق الأكيد بالفائدة.
وبهذا يكون قد ساعد على إصلاح المجتمع وإسعاده وتعمير بعض جوانبه المهدمة باندفاع غالب أفراده نحو الماديات بما جعلهم مهمين للمعنويات والتي منها محاسن الأخلاق ومكارمها وكل فضيلة، فخوت قلوبهم وتبائسوا ولم يظهر عليهم أي أثر للتقدم والسعي الحثيث الذي قدموه في سبيل الوصول إلى هدفهم المادي.
فكأن الحكمة في هذه الفقرة تتوجه نحو الأولاد الذي لم يحصلوا على قدر من الميراث المادي كما هو شأن البقية، فتصور الأمر بأن الأموال زائلة مهما كانت وبلغت بينما الأخلاق الراسخة في النفوس والتربية الصالحة هي التي تبعدهم عن السجون ودور الإصلاح ومراكز التأديب وهي التي توفر لهم العيش الكريم وهي التي تحفظ لهم الصورة الناصعة والمحترمة في أنظار الآخرين وهي... وهي...مما يطول بتعداده الكلام وهو معلوم لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد بما يجعله في عداد الأساسيات التي لا نقاش في ثبوتها.
4- المشاورة: هي مفاعلة من المشورة بمعنى بيان وجه الصواب وتقديم النصيحة، وقد قال عليه السلام كما يأتي شرحه أن شاء الله تعالى في الحكمة (162): (من أستبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها) مما يدل ويؤكد على نقطة حساسة يغفل عنها الكثير مكتفين بتجاربهم ومعلوماتهم وأحياناً استبدادهم وتسرعهم وهو الذي يغير مجرى الأحداث إلى حيث الورطة وصعوبة التلافي عندئذ.
بل ينغي للعاقل أن يعتمد رأي أحد ويتسند إلى خبرة خبير ولو بمجرد العلم بوجوه الآراء وتوجهات الأشخاص ومديات أنظارهم ومستويات أفكارهم وأطروحاتهم للحلول المناسبة والحالة المعينة، وبعدها فلو لم يجد أياً منها مقنعاً للعدول عن رأيه أمكنه الوقوف عند رأيه والعمل به من دون ما تقيد بآراء الآخرين لأن من يسدي النصيحة ولا يقصر في إبداء الرأي ويستجيب للإشارة عند طلبها منه إنما يقدم حصيلة خبرته في الحياة، وعصارة أفكاره، وغاية، ما توصل إليه وهو غير متهم بشيء؛ لأن المفروض أنه قد تقدم إليه المستشير بطلب الإشارة وإبداء المشورة فأشار حتى سميت مشاورة فلابد من التوقف جيداً عند قوله وعدم التعجل بالرفض أن اتخاذ قرار معاكس في تعامله مع القضايا لأن ذلك هو الحمق بعينه وقلة الحكمة بل انعدامها.
ولهذه الأهمية عبر الإمام عليه السلام بأنه لا ظهير كالمشاورة والظهير هو المعين فلم يعبر بذلك عن الأموال التي يكنزها الإنسان ويحتفظ بها للشدائد ولم يعبر عن الأولاد الكثيرة أو العشيرة والأتباع أو عن الجاه والمنصب وقوة التأثير و...و... بل قد خص المشاورة بذلك الوصف الدقيق لنعرف أهميتها في نضج القضية المطلوبة التوصل إلى حلها.
إذن فالدعوة إلى تعظيم شأن العقل وأن لا يستقله الإنسان أن رزق به.
وإلى التخلص من الجهل مهما أمكن لأنه فقر يلاحق حتى الغنى.
وإلى اكتساب الأدب والتحلي به والمحافظة عليه وتعميمه للأتباع.
وإلى عدم الاستبداد بالرأي بل بالتوري وطرح القضية على بساط البحث والنقاش ولتتمخض المناقشة عن أفضل الحلول للقضية.
ولو اتبعنا ذلك في حياتنا وحاولنا – ولو جاهدين – تطبيق بنودها لعرفنا الطريق إلى تحصيل الغنيمة من دون ما جهد([2]).
الهوامش:
([1]) المنجد ص 520 مادة (عقل). وقد تقدم نقل بعض التعريفات للعقل في شرح الحكمة (11) فراجع.
([2]) لمزيد من الاطلاع ينظر: أخلاق الإمام علي عليه السلام: محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان، ج1، ص 289-294.