من ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة/ ألفاظ قيود الإبل وأزمتها 3- خِزامته/ قال عليه السلام ((وَايْمُ اللهِ لأنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ من ظَالمِهِ وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهَ))

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة/ ألفاظ قيود الإبل وأزمتها 3- خِزامته/ قال عليه السلام ((وَايْمُ اللهِ لأنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ من ظَالمِهِ وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهَ))

46 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 06-10-2024

بقلم: د. حسام عدنان الياسري.

الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانع كل غنيمة وفضل، وكاشف عظيمة وأزل، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الاطهار.

وبعد:

خِزامته

الخَزْم في اللغة الشد والثقب([1]). والخُزَامَة بُرّة أو حلقة تجعل في وترة أَنف البعير ليشد بها الزمام([2]). وبعض اللغويين يخصص ذلك بأنها اذا كانت من شعر، فإنها خُزَامة، وإنْ كانت من ضفر، فهي برة([3]). و(الخُزَامة) لفظ عام، فكل شيء ثقبته، فقد خَزَمْتَه. واستعملت لفظة (خُزامتُه) في نهج البلاغة بصيغة المفرد مرة واحدة، وبصيغة الجمع على (فَعَائل) مرة واحدة أيضاً([4])، للدلالة على الإذلال والتّنكيل عند السوق والقيادة. ومن ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في مقام الحديث عن بيعته بالخلافة: ((...أَيُّهَا النَّاسُ، أَعِينُوني عَلى أنْفُسِكُمْ، وَايْمُ اللهِ لأنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ من ظَالمِهِ، وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهَ، حَتَّى أورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَأنْ كَانَ كَارِهاً)) ([5]).يصور الظالم بأنه كالدابة التي تجرّ بخزامتها المربوطة في وتر أنفها، كأن ذلك علامة على انها مقهورة صاغرة، وكذلك الظالم الذي يركبه الغرور والخيلاء  والتسلط، فاستعمل الإمام مفردة (خُزَامته) للدلالة على إخضاع هذا النوع من الناس، وإنزالهم عند سلطة الحق. فيكونوا بذلك أذلاء مقهورين ([6])، كالدابة التي تُساق إلى موردها سوقاً، سواء رضيت أو لم ترض. واستعمل الإمام لفظة، (خَزَائِم) بصيغة الجمع على (فَعَائِل) للدلالة على القَهْر والإذلال أيضاً، موظفاً هذهِ اللفظة في سياق كلامه عن (إبْليسَ) وجنوده الذين يسوقون أتباعه إلى النار. وذلك في قوله: ((حَتَّى إِذَا أنْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ ([7]) مِنْكُمْ، وَاسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ([8]) مِنْهُ فِيكُمْ،... اسْتَفْحَلَ([9]) سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ، وَدَلَفَ([10]) بِجُنُودِهِ نَحْوَ كُمْ، فَأَقْحَمُوكُمْ([11]) وَلَجَاتِ([12]) الذُّلِّ... وَقَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ، وَسوقاً بِخَزَائمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ المُعَدَّةِ لَكُمْ...))([13]). يصور انقياد أتباع (إبليس) وجنوده، وقيادهم له إلى الذلّ، ويسوقهم إلى النار المعدة لهم برضاهم؛ لأنهم إنما أطاعوه وآتبعوه ليكون إمامهم إلى العذاب وقائدهم. والإمام -هنا - يومئ إلى أصحابه الذين افترقوا عنه، وأطاعوا غيره - كما يبدو - فتركوا الحق، وظعنوا مع الباطل الذي ينتهي بهم النار.

ولما كان السياق الذي يتكلم به أمير المؤمنين محتفلاً بالمفردات الدالة على التسرع، والطمع والحرص على طاعة (إبليس)، لهذا ذكر نتائج هذا الأمر، وذلك بإذلال هؤلاء، وإرغامهم على الخضوع والقهر. مستعملاً مفردة (سَوْقاً)، و(خَزَائِم)، و(القَهْرِ)؛ للدلالة على طبيعة هذا الضرب من القياد إلى النار الذي يتزعمه (إبليس) وجنوده. فالسوق هو التقاود والتتابع في السير ([14])، وأكثر ما تستعمل هذهِ المفردة في سوق الإبل، والغنم كما يشير اللغويون ([15]). ولهذا جعل الإمام لهذا (السَّوْق) قائداً يقود هذهِ الجماعة التي شبهها بجماعة الإبل التي تساق بخزائمها التي في وتر أنفها، والتي يربط بها الزمام.ووصف سوق الخزائم هذا بـ (القَهْرِ)؛ إشارة إلى الذل الذي يعاني منه هؤلاء عند قيادهم إلى النار. كما الإبل التي يجد في إذلالها ويشدد عليها. وتبدو إيحاءات لفظة (خزائم) ظاهرة، من خلال ارتباطها بـ (الأنْفِ) الذي يعد محل الكبر والخيلاء والعزة في الإنسان، والعرب تضرب الأَنف مثلاً في الإمتناع عن الضيم، فيقال: هو حَمِي الأنْف([16])، إذا كان صاحبه أنِفاً من أن يُضَام([17]). ويقولون: شُمُّ الأُنُوْف([18]). أي أعزّها، وأكرمها وأعلاها منزلة ومكانة. ولهذا يساق البعير بجعل الخطام في وتر أَنفهِ، سواء أكانَ من خشاشٍ أو خزامةٍ؛ ترويضاً له وإرغاماً؛ لئِلاّ يمتنع على قائده في شيء([19])، لما يصيبه من الوجع في أَنفه الذي كثيراً ما يصيبه العقر في هذا الموضع. فيقال: (جَمَلٌ أَنِف). أي معقود الأنف من الخطام([20]) وذكر الإمام (عليه السلام) لفظة (خزائم) إنما هو على وجه الاستعارة؛ لأنّ الإنسان أمنع ما يكون بخزائمه، فإذا أخذت خزائمه قهراً، فلا خير له بعد ذلك([21]). ويبدو أنّ هذا المعنى هو الذي سوغ استعمال لفظة (خَزَائِم) بالجمع على وزن (فَعَائل)([22]). وهذا الوزن يدل على أمرين:
الأول: الدلالة على الكثرة، فهذه الصيغة تناسب الدلالة على الكثرة في بيان اتباع (إبليس) وأصحابه، وكثرتهم هذهِ تستلزم تعدد (الخزائِم) التي يحتاجها هؤلاء لسوقهم. 
ثانياً: أنّ صيغة (فَعَائِل) التي جاءت عليها لفظة (خزائِم) تدل على أنّ ما جمع عليها قد انتقل من (الوَّصْفيّة) إلى (الإسْمِيَّة) كما يذكر الدارسون ([23]). والمراد (بالإسْمِيّة) ابتعاد هذا الجمع من الحدث الذي هو معنى (الفِعْل)، وقُربه من الثبات والدّوام. وبحسب هذا التوصيف، فليس المراد بلفظة (خَزَائِم) في كلام الإمام معنى (يَخْزِم)، وإِنما معنى (الخَزْم). وتعليقاً على هذا الكلام، أرى أنّ اتساق كلامه (عليه السلام) مع هذهِ المسألة فيه نظر؛ لأنّ (خزائم) باقية على الوصفيّة، وجمعها على (فَعَائِل) يمكن أنْ ينزع الجمع إلى معنى الفعلية، وهي دلالة الحدث المستمر الدائم. فلا شك أنّ قوله (عليه السلام): ((وسَوْقاً بِخَزَائِم القَهْرِ...)) لا يكون مقتصراً على هذا الموقف فحسب، بل أنّ الوصف مستمر دائم([24]).

الهوامش:
([1]) ينظر: العين (خزم): 4/212، والمغرب في ترتيب المعّرب: 1/253. لسان العرب (خزم): 12/174.
([2]) ينظر: تهذيب اللغة (خزم): 7/99.
([3]) ينظر: تهذيب اللغة (خزم): 7/99.
([4]) ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 135.
([5]) نهج البلاغة: خ/136: 244.
([6]) ينظر: شرح نهج البلاغة (البحراني): 3/583.
([7]) الجامحة المُسْرعة. مأخوذة من جموح الفرس وهي اسراعه. ينظر لسان العرب. (جمح): 2/6.
([8]) الطمّاعيّة مصدر صناعي يدل على (الطَّمِع) من الناس. ينظر لسان العرب (طمع): 8/239، 240.
([9]) استَفْحَلَ الأمرُ، أي تَفَاقَمَ وأشْتَدَّ. ينظر: تاج العروس (فحل): 30/2 .
([10]) الدَّلف المَشْيُ الرُّوَيْدُ المقارب في الخَطّوِ. ينظر: لسان العرب (دلف): 9/106.
([11]) أَقْحمَ الشيءَ، أَدْخَلَهُ من غَيْرِ رَوِيّةٍ. ينظر: لسان العرب (قحم): 12/62.
([12]) الوُلُوج والدخولُ. ينظر: لسان العَربَ (ولج): 2/400.
([13]) نهج البلاغة: خ/ 192: 362، 263.
([14]) ينظر: لسان العرب (سوق): 10/166.
([15]) نفسه.
([16]) ينظر: تهذيب اللغة (أنف): 15/345.
([17]) نفسه.
([18]) ينظر: لسان العرب (أنف): 9/12.
([19]) ينظر: تهذيب اللغة (أنف): 15/345.
([20]) نفسه.
([21]) ينظر: الديباج الوضي: 4/1986.
([22]) وبجمع على هذا الوزن كلُ اسم رباعيٍ، مؤَنَّثٍ، قبل آخره مَدّ، مَخْتُوماً بالتاء، أو مجرداً منها. نحو: صَحِيْفَةٌ، وصَحَائِفَ، وعَجُوْزٌ، وعَجَائِز. ينظر: شرح ابن عقيل: 4/132، ومعاني الأبنية: 170.
([23]) ينظر: معاني الأبنية: 190.
([24]) لمزيد من الاطلاع ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة: للدكتور حسام عدنان رحيم الياسري، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 95-84.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2151 Seconds