من آثار نهج البلاغة في المستوى الأخلاقي لدى المفسرين 3- الوفاء بالعهد والميثاق

مقالات وبحوث

من آثار نهج البلاغة في المستوى الأخلاقي لدى المفسرين 3- الوفاء بالعهد والميثاق

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 04-10-2023

بقلم . د. الشيخ محسن الخزاعي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين أساس الدين وعماد اليقين.

أما بعد:
إن من أوضح مصاديق الجانب الأخلاقي ((الوفاء بالعهد والميثاق)) الذي يُعدُّ من الفضائل الأخلاقية المهمة في حركة الإنسان التكاملية، وبعكس ذلك ((نقض العهد)) الذي يُّعدُّ من أسوأ الخصال والرذائل الأخلاقية.
لذا نجد أنَّ الإسلام لا يعذر أحداً ـ وبأي حال من الأحوال ـ في نقض العهود والمواثيق، وهذا ما أكَّده الإمام الصادق عليه السلام بقوله: ((ثلاثة لا عذر لأحد فيها:)) أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد إلى البر والفاجر، وبر الوالدين برَّين كانا أو فاجرين))([1]).
ويتضح من خلال هذا الحديث إنَّ لزوم الوفاء بالعهد يُعدُّ ركناً من أركان الفطرة الإنسانية السليمة، وبتعبير آخر أنَّ هذا المفهوم هو من الأمور الفطرية غير القابلة للتسامح وإعطاء الرخص؛ لأنها تدخل في صميم بناء الإنسان التكاملي.
وحتى في الأقوام الجاهلية نرى أنَّ الوفاء بالعهد والميثاق يُعدُّ من الوظائف والواجبات الحتمية للأفراد إذْ نجد سعيهم الكبير في حفظ عهودهم والتعامل مع الآخرين من موقع الوفاء بالعهد والميثاق وما قصة)) عبيد بن الأبرص الأسدي الشاعر إلا خير دليل على ذلك([2]).
ونقرأ في الآيات القرآنية والروايات الإسلامية في هذا الباب تعابير قوية وشديدة تبين أهمية الوفاء بالعهد وتذم الذين ينقضون العهد والميثاق.
قال تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عَاهَدُوا}([3])، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}([4])، وأيضاً: {وَأوفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا}([5])، وكذلك قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أوفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}([6])، وفي قوله: {إلا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}([7])، كما جاء في قوله تعالى: {وَأوفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا}([8])، مما يكشف أهمية هذه المسألة، فقد نقل عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: ((لا دين لمن لا عهد له))([9]).
لذا فقد جاءت آخر سورة في القرآن الكريم نزولاً تأكد هذا المعنى وتطرح قاعدة فقهية عامة بقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أوفُوا بِالْعُقُودِ}([10]).
فهذه الآية من الآيات التي تستدل بها كتب الفقه، في البحوث الخاصّة بالحقوق الإسلامية وتستخلص منها قاعدة فقهية مهمة هي ((أصالة اللزوم في العقود)) أي أنَّ كل عقد أو عهد يُقام بين اثنين حول أشياء أو أعمال يكون لازم التنفيذ([11]).
ولهذا تؤكد مصادر التشريع الإسلامي بشكل لا مثيل له على قضية الوفاء بالعهود التي قد تكون من القضايا النوادر التي تمتاز بهذا النوع من السعة والشمولية؛ لأنّ الوفاء لو انعدم بين أبناء المجتمع الواحد لظهرت الفوضى وعم الاضطراب فيه وزالت الثقة العامّة، وزوال الثقة يُعدُّ من أكبر الكوارث وأخطرها.
فقد جاء في نهج البلاغة من قول الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر: ((فإِنّه ليس من فرائض الله شيء للناس أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لمّا اسْتَوْبَلوا من عواقب الغدر))([12]).
وجملة لما استوبلوا من عواقب الغدر معناها: لمّا نالهم من وبال من عواقب الغدر، على حدِّ قول الشيخ مكارم في الأمثل([13]).
وقد أفاد الشيخ هذه الأهمية الكبرى للوفاء بالعهد التي تناولها قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أوفُوا بِالْعُقُود}، من خلال هذا العهد الشهير لمالك الأشتر عندما ولاه الإمام عليه السلام ولاية مصر([14]).)[15].

الهوامش:
([1]) الكافي، 5، باب: أداء الأمانة.
([2]) ظ : تاريخ الكوفة، السيد حسين بن السيد احمد البراقي، (ت 1332هـ)، تحقيق: ماجد أحمد العطية، انتشارات المكتبة الحيدرية، 1424ه‍ ـ 1382 ش، 199.
([3]) البقرة، 177.
([4]) المؤمنون، 8.
([5]) الإسراء، 34.
([6]) آل عمران، 76.
([7]) التوبة، 4.
([8]) النحل، 91.
([9]) بحار الأنوار، 72/ 96.
([10]) المائدة، 1.
([11]) ظ : منية الطالب في شرح المكاسب، الشيخ موسى بن محمد النجفي الخونساري (ت 1363 ه‍(، تقريرات المحقق الميرزا محمد حسين النائيني (1355هـ)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين قم المقدسة، 1418هـ، 3/ 16.
([12]) نهج البلاغة، 3/ 106.
([13]) ظ : الأمثل، 3/ 579.
([14]) الأمثل، 3/ 579.
([15] )لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية، الشيخ محسن الخزاعي، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص  200-204.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2497 Seconds