بقلم: د. جليل منصور العريَّض
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
الحق من اسماء الله الحسنى ويعني «الموجود المتحقق من وجوده والهيته»([1]) وللحق معان متعددة يمكن معرفتها من خلال السياقات التي ترد فيها، فعلم القانون ـ على سبيل المثال ـ يعرف الحق «بأنه مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون»([2])، فهو يحصره في النواحي المادية، ويربطه بالقانون سواء اكان وضعي أم تشريقي وقد يعرف «فلسفياً ما طابق الذهن والواقع ويقابل الباطل»([3])، «وحقائق الإيمان، أركانه وهو التصديق بوجود الله تعالى وبوحدانيته واعتبار اسمائه الحسنى»([4])، ويأتي بمعنى المطابقة والموافقة والثبوت([5])، ويطلق الحق أيضاً «على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب»([6]) على أساس أنها تتضمن ذلك، «والحقيقة في مصطلح العلماء ما قابل المجاز»([7])، ويأتي الحق أيضاً بمعنى العدل كما في قوله تعالى:
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}([8])، ويأتي بمعنى الصدق كما في قوله تعالى:
{حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى الله إِلَّا الْحَقَّ}([9])، ويأتي الحق بمعنى المنزلة والقيمة المعنوية كما في قوله تعالى:
{وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}([10]).
فالحق كقيمة خلقية يكون جماع من الصدق، والعدل، والرضاء، والنأي بالنفس عن الأنانية، وتجنب الشح، فمرونته تجعل معانيه تتضمن الاخذ والعطاء. واذا كان العدل يهدف إلى ارساء الطمأنينة في النفس فإن الحق بشموليته على العدل وتضمنه معاني التبادل الذاتي، هو العامل المحرك للفرد والمجتمع في طريق التفاهم والبناء، إذ لا يمكن لأي فرد أو أية فئة ان تطالب بحقوق معينه، الا في مقابل تأديتها لواجبات تترتب على تلك الحقوق.
وهذا التبادل بمفهومه العملي، هو ما يرمي إليه علي عليه السلام من مفهومه للحق، فقوله «الحق واسع الأشياء في التواصف واضيقها في التناصف»([11]) يعني ان الحق كنظرية متمثلة في الوصف القولي، هو من الاتساع بحيث لا يقاس ولا يحيد، ولكن سرعان ما يضيق وتنكر كل صفاته إذا ما اريد له يوجد في حيز التطبيق. ويريد علي عليه السلام من وراء تبيانه لتلك الخاصية، الحق العملي البعيد كل البعد عن الاقوال كما في قوله بأن الحق «لا يجري لأحد الا جرى عليه، ولا يجري عليه الا جرى له»([12]) فهو أخذ وعطاء مستمران باستمرارية الحياة، وبين جميع البشر، وعلى جميع المستويات الاجتماعية لأنه دستور حياة، ولا يمكن لأي فرد مهما علت منزلته وسمت مكانته، ان تكون له حقوق، دون ان تكون عليه واجبات تسمى حقوقاً بالنسبة للغير، «ولو كان لاحد ان يجري له ولا يجري عليه، لكان ذلك خالصا لله سبحانه وتعالى دون خلقه لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه»([13]) هو ما لم يلزم به الله عباده لتدبروا معنى الحق في علاقتهم ومع نفوسهم لذلك «جعل حقه على العباد ان يطيعوه، وجعل جزاءهم مضاعفة الثواب»([14]) فالحق ـ كما يبدو لنا في فكر علي (عليه السلام) -ليس مجرد ألفاظ جوفاء أو معنى خالٍ من مضمونه العملي لذلك فهو لا يعرف بالرجال كما يتراءى للبعض- من خلال منطقهم أو ما يحدثنا به التاريخ من سيرهم، ولكن الرجال يعرفون بالحق([15]) أثناء مباشرتهم له، وفهمهم ابعاده، ونزولهم عند حدوده، بإيمان وصدق عزيمة لأنه «ثقيل مرئ»([16])، ثقيل لأن النفس تأباه إذا تعارض مع مصالحها ولكنه حسن العاقبة، لأنه يكبح من جماح شهواتها، ويحد من تمردها، ويجعلها تحت سلطان العقل، لذلك فعلى سبيل الجدل تجنباً للرذيلة يقول علي عليه السلام «إلا وأنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل»([17]) ولا مراء فإن الباطل وان حسن مظهره، فإن مباشرته لا بد وان تؤدي إلى مضرة، وفي المقابل لا يعني ان العمل بالحق لا يعود بالنفع على مباشرته، لأن الحق في حد ذاته غايته الخير بمعناه الواسع. وبتتبعنا للحق كمنبع من منابع القيم الخلقية ـ في فكر علي عليه السلام ـ سنجد أنه بمثابة الحزم الضوئية المنبعثة من مصدر واحد يلم في داخله كل ما أمكنه من المعاني الخيرة التي تهدف إلى بناء الإنسان وسعادته بتكوينه تكويناً متوازناً مع نفسه ومتسقاً في علاقاته بالآخرين)([18]).
الهوامش:
([1]) الطريحي ـ مجمع البحرين 5/148.
([2]) عبد الزاق السنهوري ـ مصادر الحق في الفقه الإسلامي 1/9.
([3]) يوسف خياط ـ معجم المصطلحات العلمية والفنية ص 171.
([4]) الطريحي، السابق 5/148.
([5]) راجع: أحمد رضا ـ معجم متن اللغة 2/132.
([6]) منصور رجب ـ تأملات في فلسفة الأخلاق ص 342.
([7]) الطريحي، السابق 5/ 148.
([8]) ص /26.
([9]) الاعراف/ 105.
([10]) الزمر /67.
([11]) خطب ـ 210 ـ الفقرة الأولى.
([12]) خطب ـ 210 ـ الفقرة الأولى.
([13]) السابق.
([14]) السابق.
([15]) راجع حكم ـ 270.
([16]) حكم 382.
([17]) خطب 28.
([18]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 439-442.