بقلم: الشيخ محسن المعلم
((الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على هداة الخلق إلى الحق، محمد وآله الطاهرين))
وبعد:
«أمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الاْمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ إلى الاَْرْضِ كَقَطر المَطَرِ إلى كُلِّ نَفْس بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَة أَوْ نُقْصَان، فإذا رَأَى أَحَدُكُمْ لأَخِيهِ غَفِيرَةً([1]) في أَهْل أَوْ مَال أَوْ نَفْس فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً، فَإِنَّ المَرْءَ المُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَيُغْرَى بهَا لِئَامُ النَّاسِ، كانَ كَالفَالِجِ اليَاسِرِ([2]) الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَة مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ المَغْنَمَ، وَيُرْفَعُ عَنْهُ بها المَغْرَمُ، وَكَذْلِكَ المَرْءُ المُسْلِمُ البَرِيءُ مِنَ الخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ: إِمَّا دَاعِيَ اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ فَإِذَا هُوَ ذُوأَهْل وَمَال، وَمَعَهُ دِينُهُ وَحَسَبُهُ، إِنَّ المَالَ وَالبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، والعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللهُ لاِقْوَام»([3]).
وتمثل هذه الفريدة هدياً في الاعتقاد، ونبراساً في السلوك، فإذا كمل اعتقاد المخلوق بأن الخالق هو الرازق بحكمة وتدبير ومصلحة وتقدير أيقن بجميل اختيار الله وحسن صنعه بعبده فتطمئن بذلك نفسه ويصبر ويشكر في مواطن الصبر والشكر ويسلم تسليماً.
هذا وهو يعي أن لا حيلة للمخلوق فيما قـُسم له فربما حظي بالدنيا الغبي وحرم منها العبقري.
كم عاقلٍ عاقلٍ أَعْيَتْ مذاهبُهُ وجاهلٍ جاهلٍ تلقاهُ مرزوقا
هذا الذي تَرَكَ الأوهامَ حائرةً وصَيَّرَ العالِمَ النحريرَ زِنديقا
فلا يكونن ذلك فتنة له في دينه، وتمرداً على بارئه، وقنوطاً من خيره وعطائه فربما تبدل الحال وأنتقل المال فيعود إلى المحروم غير مثلوم الدين، مرضي الخلق، والمال وإن عظم خطره وأعتده الناس كل شيء أو أهم شيء فإنما هو متاع الدنيا وحرثها ولا ضير ولا هوان على فاقده بل ربما كان خفيف المؤنة قليل التبعة في الآخرة.
إذا المرءُ لم يدنسْ من اللُؤْمِ عرضهُ فكـلُّ رداءٍ يرتـديهِ جـميلُ
ب) التواضع للغني:
«وَمَنْ أَتى غَنِيَّاً فَتَوَاضَعَ لَهُ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ»([4]).
ج) تواضع وترفع:
«مَا أَحْسَنَ تَوَاضُعَ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ طَلَباً لِمَا عِنْدَ اللهِ! وأَحْسَنُ مِنْهُ تِيهُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ اتِّكَالاً عَلَى الله»([5]).
فثمت تواضعان مذموم ومحمود، وترفع ممدوح، وكلٌّ يوصف بما يستحقه.
فالتواضع للغني لا لصفات كريمة وخصال حميدة يتحلى بها يعني التقديس للمال والتذلل له وتملكه للقلب وصرفه عن الرب، فماذا يبقى بعد من دين هذا الخاشع المتواضع؟!
أمّا من ملك رفاه المعاش والتقلب في الرياش وفي ذلك بواعث الزهو والفخر والتعالي ولكن لم يشمخ بأنفه ولم يختل في عطفه بل رق قلبه وخضعت جوارحه لمن هو دونه في حساب أهل الدنيا فهو على ذكر من ربه، ورجحان في عقله وموازينه.
ومن كابد فقراً وعاش مرًّا يرى الأغنياء في نعيمهم يرفلون، يبذّرون ويسرفون وهو مالك إرادته فلا يُقَبِّل يداً طمعاً، ولا يذوب جزعًا بل وكأنه لم يعش فقراً ولم يرَ واجداً بل تعلق قلبه بربه فبيده الإعطاء والمنع فذلكم هو الترفع الشريف والخلق العفيف.
ولعل لدقة الموقف والتمرد على الفقر ومكابداته اعتده الإمام عليه السلام ببليغ قوله: (تيهًا) بل وأحسنَ من ذلكم التواضع المحمود([6]).
الهوامش:
([1]) غفيرة: زيادة وكثرة.
([2]) الفالِج: الظافر الفائز.
الياسر: اللاعب بقداح الميسر، المقامر.
([3]) خ 23 /64.
([4]) م 228 /508.
([5]) م 406 /547.
([6]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الأخلاق من نهج البلاغة: الشيخ محسن علي المعلم، العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط1، ص166-168.