ماذا بعد عليًّ إلَّا ... الضلال
الباحثة : خطى الخزاعي
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطاهرين
بزغ فجر الرسالة الخاتمة، وبُعِث الأمينُ إلى أمةٍ جاهلة تعبد ما تصنع، وتأكل ما تنهب، وتَئِد ما تلد... أُرسِلَ ليهديَهم إلى منظومةِ دينٍ محكمةٍ ومتكاملةٍ من عقيدة وأحكام وأخلاق تنسجم تماماً مع الفطرة الإلهية السوية، بعدما يزيل عنها ما تراكم عليها من رَين الجاهلية وأدرانها؛ ولأنَّها الرسالة الخاتمة فقد أصَّلَت وأسَّست دينًا جديدًا للكفار من جهة، وصحَّحت مسار ما حُرِّفَ من الرسالات السابقة باتِّجاه الهدف الحق عند أهل الكتاب من جهة أخرى, ومن الطبيعي أن تعتمدَ هذه الرسالة ذات العمق والشمول على وسائل وأدوات لتحقيق غاياتها تتناسب وخطورة ما ستواجهه من إنكار وتكذيب، فتارةً القرآن المعجز وأُخرى الكرامات والتأييدات الإلهية للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) التي كانت بمرآى ومسمع من المجتمع المعاصر، وثالثةً سيرة النبي وخُلُقِه العظيم وغيرها .
وبالنتيجة وِلِد المجتمع الإسلامي الأول بعد مخاض عسير وتضحيات جسيمة، والمتكون من أفرادٍ تساووا ظاهراً في انطباق العنوان عليهم بوصفهم مسلمين، فكلُّ فردٍ منهم له ما للمسلم الآخر من حقوق وعليه ما على المسلم الآخر من واجبات . وتحت مظلة هذا العنوان (الإسلام) ستتَّضح المفترقات؛ ففريق لبَّى نداء الدعوة منذ انطلاقتها معتقدًا بها اعتقادًا جازمًا جعله يبذل في سبيل نصرتها وغلبتها كل ما يملك، وآخر كان حتَّى اللحظات الأخيرة محاربًا للدعوة ورموزها وبعد هزيمته لم يجد سبيلًا آخر إلَّا أن يلتحق بالركب مظطرًا كارهًا, وفريقٌ ثالث قد قرأ الأحداث وأدرك غلبة الدين الجديد وأنَّ مصلحته تقتضي أن يكون مع المنتصر أيًّا كان عسى أن ينال من الأمر شيئاً فانضم تقوده المصلحة .
ويمكن أن توجد جماعات ذات أُطُر أخرى، وعند تجاوز العنوان سنجد حتمًا التفاوت في التعاطي مع الدين واضحاً جلياً وكما حكى ذلك بقوله تعالى:((قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [الحجرات: 14]
ولأنَّ صاحب الشرع حكيمٌ والشريعة محكمة لا ثغرة فيها، برز دور أدوات أُخرى مهمتها الفلترة والتمحيص وتجاوز العنوان الظاهري إلى الحقائق وما تطويه الضمائر لأفراد المجتمع الإسلامي، فكان عليًّا بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه) على رأس هرم هذه المفلترات، حاكياً هذا المعنى القرآن الكريم مع السنة النبوية المطهرة في العديد من المواقف والأحداث، ومن أمثلة ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى في سورة البينة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [البينة: 7] أنَّه بعدما تلاها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التفت إلى علي (عليه السلام) وقال: هم والله أنت وشيعتك، وميعادك وميعادهم الحوض غدا، غُرًا محجَّلين متوَّجين، فقال: أبو جعفر (عليه السلام): هكذا هو عندنا في كتاب علي (عليه السلام)([1])، وقال أيضًا: ((عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع علي، اللهمَّ أدرِ الحقَّ مع عليٍّ حيثما دار))([2])، وقوله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) حين دخل عليه أمير المؤمنين علي (عليه السلام): ((ألا إنَّ هذا الرجل المقبل؛ فإنَّه الصديق الأكبر والفاروق الأعظم))([3])، وكذلك قوله: ((ياعلي، أنت قسيم الجنة والنار، بمحبتك يُعرف الأبرار من الفجار، ويميز بين الأشرار والأخيار، وبين المؤمنين والكفار))([4])، وغيرها العشرات من الآيات والروايات الشريفة التي تُبرز هذا الأمر إمَّا مضمونًا أو نصًّا، ويمكن أن نقرأ من هذه الكثرة بهذا الشأن أهميته ومحوريته في الدين العاكسة للحكمة الألهية في هداية الناس وبيان الطريق الموصلة لتلك الغاية، وما يترتب على ذلك من ثواب وعقاب، ليأتي فصل رحيل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويكون علياً حاضرًا أيضًا في آخر ما خاطب به المسلمين في حجة الوداع لتكون لله الحجة البالغة على الناس وبولايته في ذلك اليوم أنزل الله آخر آياته ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)) [المائدة: 3] ليهتدي من يهتدي بعليٍّ عن بينة ويضل من يضل عنه عن بينة .
[1])) الحر العاملي (ت: 1104م), تحقيق : مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث، المطبعة: مهر – قم، (ط2)،1414: 16/183 .
[2])) المسائل الصاغانية، الشيخ المفيد (ت: 413 هـ)، تحقيق : السيد محمد القاضي، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت – لبنان، ط: 2، 1414 هـ - 1993 م: 109 .
[3])) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب (ت: 588 هـ)، تصحيح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المطبعة: الحيدرية - النجف الأشرف (د ط)، 1376 - 1956 م: 2/286 .
[4])) الأمالي، الشيخ الصدوق ,(ت : 381ه)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة – قم ، (ط: الأولى)، 1417م: 10 .