تحقيق التراث المخطوط وأهمّيته العلميَّة

مقالات وبحوث

تحقيق التراث المخطوط وأهمّيته العلميَّة

15K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 09-12-2018

تحقيق التراث المخطوط وأهمّيته العلميَّة

 

الباحث: سَلَام مَكّيّ خُضَير الطَّائِيّ

 

الحمدُ لله ربّ العالين والصَّلَاة والسَّلام على أشرف الخلق مُحَمَّد بن عبد الله وآله الطَّيّبين الطَّاهرين، واللعن الدَّائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدِّين.

 

وبعد:

 

إنَّ التَّراث بصورة عامة والتّراث الإسلامي المخطوط بصورة خاصَّة يعد هوية للشعوب الإسلامية ومصدر ثقافتها، والحفاظ عليه من الضياع والاندثار والاهتمام به واجب ديني مقدَّس وأخلاقي ووطني، فهذا التراث المخطوط كان نتيجة لتظافر جهود رجال العلم والعلماء الماضين – رحمهم الله- من هذه الأمَّة، وإنَّهم قضوا بعض سنوات عمرهم، وتركوا بلدانهم للسَّفر للبلدان الأخرى ولاقوا ما لاقوا من معاناة في السَّفر، بحثاً عن العلوم ليوثّقوها للأجيال اللاحقة بعدهم، وهناك وسائل عدَّة ممكن من خلالها أن نحفظ هذا التراث الإسلامي المخطوط، ألا وهي وسيلة (تحقيق المخطوط).

فالتّحقيق: هو تصحيح النّصوص وتصديقها واثباتها وتوثيقها، وإحكامها، من قبل القائم بعمل التَّحقيق، وبأمانةٍ عليمة[1]، وهو علم كباقي العلوم الأخرى، بل من أجلَّها.

 

 أمَّا أهمِّيته العلميَّة:

 

فللتّحقيق أهمّية علمية وتاريخية بالغة في حفظ تراث الأمّة وإظهاره إلى السَّاحة العلميَّة، فبه يستطيع المُحقق أن يحفظ هذا الإرث الحضاري التاريخي، الذي قد أنتجه علماؤنا الأعلام عبر السّنين، وإخراج هذا التّراث إلى النُّور بدلاً من تركه مركوناً في رفوف المكتبات، ومن أجل إفادة القارئ والمطالع من هذا التّراث، بعد أن يبذل المحقق عناية خاصَّة وجهداً كبيراً في مراحل تحقيق الكتاب (المخطوط)، مثلاً: التّحقق من عنوان المخطوط واسم مؤلفه وتصحيح إن كان يتطلَّب الأمر التَّصحيح، ومقابلته النَّسخ وتقييمها[2]...إلخ.

 

شروط ومؤهلات المحقق:

 

إنَّ المحقق الذي يقوم بعمل التحقيق للتراث المخطوط يجب أن يكون حاملاً للعديد من الشروط والمؤهلات التي تؤهله للعمل وممارسة التحقيق للتراث، فمن هذه الشروط:

أن يكون المحقق مؤهلاً علمياً للعمل في مجال التَّحقيق، فلابد له أن يكون ملماً بعلم التَّحقيق وقواعده وشروطه وبمدى أهميته العلمية وببعض أساليب المؤلفين، وإلمامه أيضاً بعلوم اللغة العربيّة، ودرايته بأنواع الخطوط المستعملة في الكتابة وتاريخها، وأن يكون لديه إلمام في علم الرجال والأنساب، وفي العلم الذي يريد أن يحقق فيه، وغيرها من المعلومات الأخرى التي تخص التحقيق، وكذلك أن يتميّز المحقق بالأمانة في التَّصرّف مع النَّص المخطوط وفي توثيق المعلومة، من دون زيادة أو نقصان، ولا يغير أسلوب المؤلف الذي استعمله في تأليف المخطوط، وإن حدث من المحقق أي تصرف في المخطوط، عليه أن يشير إلى تصرّفه هذا سواء في مقدمة التَّحقيق أو في الهامش، ويجب على المحقّق أيضاً أن يكون متحلّيًّا بالصَّبر وسعة الصَّدر في تحقيق النصوص المخطوطة، ولا يصيبه الملل في عمله عند تعرضه لبعض النصوص الصعبة، ففي بعض الأحيان يصادف نصاً مغلقاً محرَّفاً ولا يجد له أثرًا في بطون المصادر التي أمامه فيمضي في سبيل اثباته وقتاً طويلاً، وغير هذا ما يصادف المحقق. وكذلك أن يكون متواضعًا، والاستعداد للحوار والمناقشة واحترام آراء الآخرين وتقبلها بسعة صدر، والابتعاد عن التَّعصّب وعدم التَّمسّك بالرأي الشخصي، وهذه من أخلاقيات العلماء[3].

 

مراحل التَّحقيق:

 

إن لعمل التَّحقيق وإحياء التّراث المخطوط مراحل عدّة يمرّ فيها، فمن هذه المراحل كاختيار عنوان المخطوط – إن لكن معنونا- وانتقائه ومعرفة مدى أهميته وفائدته والغرض من تحقيقه، والبحث عن معرفة نسخ المخطوط وجمعها قدر إمكان المحقق، إن كان يتوفر أكثر من نسخة لهذا المخطوط[4]، وإن لم يتوفَّر له نسخ أخرى بعد التّأكّد طبعاً من ذلك الأمر، فيعتمد على النّسخة التي حصل عليها مع الإشارة إليها في المقدِّمة، وبعد ذلك قراءة النّسخ وتوثيقها، لبيان أيهما أفضل نسخة، حيث يتم اختيارها والاعتماد عليها كنسخة أصل، من حيث جودة الخط المستعمل في كتابتها وسقط الكلمات والقدم وغيرها، وبعد الاطلاع على النّسخ الخطّيّة يتم اعتماد إحدى هذه النّسخ وتسمى بـ(نسخة الأصل)، واختيار لها رمز يختاره المحقق للتّمييز بينها وبين النّسخ الأخرى (النسخ الفرعية)، ومن ثم تتم مقابلة النّسخ فيما بينها وتثبيت الفوارق التي تحصل بين النّسخ في الهامش[5]، ومن ثم التلفيق بين النّسخ، فممكن أن توجد في بعض الفوارق بين النّسخ، سواء كانت هذه الفوارق كبيرة أم صغيرة، فيقوم المحقق بإثبات النص في المتن وضبطه من النّسخة الأفضل بين النّسخ المتوفرة لديه، وبعد ذلك تصحيح الأخطاء التي تحدث سهواً سواء كانت من المؤلف أو النَّاسخ [6].

 

منهجية المحقق المتَّبعة في التّحقيق:

 

لكل محقق بمنهجيَّة خاصَّة في عمل التَّحقيق، لكن يجب أن تكون ضمن شروط المنهجيات المتبعة في عمل تحقيق التراث المخطوط، فتُعد المنهجية في التحقيق ركناً أساسيّاً من أركان التَّحقيق، فلا بد لكّل عملٍ أن تكون له منهجية متَّبعة فيه وموضوعة من قبل المحقق، للسَّير عليها وعدم خروج مسار العمل عنها، فمثلاً يقوم المحقق بالتَّعريف باسم المخطوط واسم مؤلفه، والنّسخ التي اعتمد عليها في التّحقيق، وذكر الأمور التي واجهته في عمله والإشارة إليها في مقدّمة التَّحقيق. ومثلاً أيضاً طريقته التي اتّبعها في تخريج معاني الكلمات من المعجم، كذكره مثلاً مادة الكلمة والجزء والصّفحة، وباقي المعلومات التي يتم ذكرها وقائمة المصادر، وكذلك التعريف بالأعلام أمَّا أن يعرّف بكل واحد منهم في الهامش، وفي نهاية الكتاب أي في الفهرست الكشَّاف...الخ.

وهذا مقال مختصر لعمل التحقيق وفيه كثير من شروط المحقق ومراحل التحقيق والمنهجيّة المتّبعة في التحقيق، وقد اختصرنا على هذا من أجل تقديم الفائدة.

وفي الختام الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلَاة والسَّلَام على أشرف الخلق أجمعين أبي القاسم مُحَمَّد وآله الطَّيّبين الطَّاهرين، واللعن الدَّائم على أعدائهم إلى يومِ الدِّين.  

 

الهوامش:

 

[1] ينظر: الصّحاح للجوهري: 4/1461، وتحقيق المخطوطات بين النَّظرية والتَّطبيق لفهمي سعيد وطلال مجذوب: 18.

[2] ينظر: تحقيق النّصوص ونشرها لعبد السَّلَام هارون: 42، ط:7.

[3] ينظر: منهج تحقيق المخطوطات لإياد الطَّبَّاع: 24،41-43.

[4] ينظر: قواعد تحقيق المخطوطات لصلاح المنجد: 12، ومنهج تحقيق المخطوطات لإياد الطَّبَّاع:23- 24.

[5] ينظر: منهج تحقيق المخطوطات لإياد الطَّبَّاع: 25-26،53.

[6] ينظر: المصدر نفسه: 54-55.

 

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.3438 Seconds