عمَّار حسن الخزاعي
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمَّد وعلى آله الطيبين الطاهرين...
يأخذُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكانة رفيعة في قلوب المسلمين جميعًا على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والعقدية، ولا نقول شططًا إذا ما جزمنا بأنَّ جُلَّهم مستعدُّ للتضحية بالنفسِ من أجله (صلوات الله عليه وآله)، ولا نبتعد عن اليقين فيما لو جزمنا بأنَّ جميع المسلمين يسعى إلى إرضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبثِّ السعادة في روحه الطاهرة، وهذه أمور أعتقد أنَّها مُسلَّم بها.
وقد سعى أكثر المسلمين منذ رحيله (صلوات الله عليه وآله) إلى محاولة إحياء ذكره، وذلك عن طريق تكريم أزواجه (أمهات المؤمنين) وتبجيل أصحابه، وتسجيل سيرته وأحاديثه، وتخليد كلِّ ما له صلة برسول الله (صلى الله عليه وآله)، على الرغم من اختلافهم كلًا بحسب توجُّهاته الفكرية والعقدية. وإلى اليوم نرى منابر المسلمين في كلِّ ميادين المعمورة ونواديها يهتفون باسمه (صلوات الله عليه وآله)، يذكرون مناقبه وأخباره، ويحيون ذكرى أزواجه ومناقب أصحابه، إلَّا أنَّنا لا نرى ذكرًا لأهل بيته (صلوات الله عليه) على الرغم من أنَّهم أقرب إليه من أصحابه؛ بل لا نرى ذكرًا لابنته الوحيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وإن ذُكرت فإنَّها تُذكر بصورةٍ هامشيَّة.
فاطمة التي لم تكمل الثمانية عشر ربيعًا، تلك التي أجبرتها أُمَّة الإسلام على الرحيل إلى خالقها مقهورة مظلومة مكسورة الضلع بجنين مقتول لم يرَ ضوء الدنيا ولم يشمَّ هواءها.
أنا لا أريد اليوم البحث في الماضي، ولا أُريد التحقيق في مقتل فاطمة (عليه السلام) على الرغم من أنَّ رحيلها المبكِّر يشي باغتيالٍ دُبِّر لها، وسأسلِّم اليوم بما ينادي به أكثر المسلمين ((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [البقرة: 134]، ولكنِّي أسأل لماذا إلى الآن تُغتال فاطمة؟!
لماذا لا نرى لها ذكرًا يوازي ذكر عائشة بنت أبي بكر على أقلِّ التقادير؟ لماذا لا تُذكر رواياتها وأحاديثها كما تُذكر روايات ومواقف لكثيرٍ من الصحابة، لماذا لا يتُم الاستشهاد بسيرتها وخطابها وأفعالها؟ لماذا تخلو مناهج المسلمين من ذكر فاطمة الزهراء (عليها السلام) على الرغم من ذكر كثير من النساء اللواتي لا يصلن إلى تراب أقدامها، ماذا يعرف المسلون عن فاطمة؟
فاطمة التي كان تُلقَّب بأمِّ أبيها([1])، وقطعًا أمُّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله) خير من أمِّ المؤمنين ولكن أكثر الناس لا يعقلون، كانت الزهراء أشبه النَّاس برسول الله (صلى الله عليه وآله)([2])، ولم تكن مشيتها تختلف عن مشية أبيها([3])، وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إذا دخلت عليه فاطمة قام لها إجلالًا، ثمَّ يُقبِّلها ويُرحِّب بها([4])، ولم يُعهد أنَّه فعل مع امرأةٍ غير فاطمة (عليه السلام) ذلك، ثمَّ أنَّه صرَّح مرارًا: أنَّ فاطمة بضعة منِّي([5])، ((يقلقني ما يقلقها ويؤذيني ما يؤذيها، ويرضيني ما يرضيها ويبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها))([6]).
فالرسول ينبسط ويفرح لفرح فاطمة، وقطعًا هو يفرح إذا ذكر المسلمون فاطمة وأجلُّوها . ولكن من المؤسف أنَّ فاطمة ما زالت تُغتال إلى يومنا هذا، فلم تكتفِ الأمَّة الجاحدة لحقِّ رسولها بظلمِ أهل بيته وظلم ابنته، وقتل أولادها على مدى العصور والأزمان، ويستمر الاغتيال لفاطمة (عليه السلام) بطمس أخبارها وعدم ذكر مناقبها، وعدم تعريف العالم بها تعريفًا يليق بمقامها وقداستها علوِّ منزلتها، ولا أعلم سبب التعتيم على فاطمة وسيرتها على الرغم من انهيال الخطباء والمفكِّرين والكُتَّاب من كلِّ الطبقات هاتفين بتخليد أُناسٍ آذوا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في حياته وبعد مماته بشهادة التاريخ عليهم بذلك، ولكنَّ المسلمين يهرعون إليهم ويتركون بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فلا يكادون يذكرون أنَّ لنبيِّهم ابنة اسمها فاطمة . نعم قد لا يكون هناك سببٌ من أنَّ المسلمين اتَّبعوا سُلطة السقيفة وسياستها ضدَّ فاطمة فآلوا إلَّا أن يُكملوا مسرح جريمة الهجوم على الدار، وأن يُحاربوا أهل هذا البيت ما دامت الحياة، ولكن يأبى الله إلَّا أن يُتمَّ نوره ولو كره المتأسلمين. وستبقى فاطمة (عليه السلام) شُعلة وهَّاجة في قلوب شيعتها ومحبِّيها مهما طال الزمن، وستبقى منابر الحقِّ تهتف بها وتتغنَّى بفضائلها، ولا بدَّ من أن يأتي ذلك اليوم الموعود الذي يشعُّ فيه نور فاطمة من جديد ليعمَّ هذه المرَّة الدُّنيا بأسرها، ولن تكون هناك سقيفة تحمي الظالمين .
السلام على الصديقة الطاهرة سيدة نساء العالمين في كلِّ ساعة وحين...
الهوامش:
([1]) ينظر: المعجم الكبير، سليمان أبو القاسم الطبراني (المتوفى: 360هـ)، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية – القاهرة، الطبعة: الثانية: 22/397 .
([2]) السنن الكبرى، أحمد بن شعيب النسائي (المتوفى: 303هـ)، حققه وخرج أحاديثه: حسن عبد المنعم شلبي، أشرف عليه: شعيب الأرناؤوط، قدم له: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001 م: 7/394 ، المعجم الكبير: 22/404
([3]) ينظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل (المتوفى: 241هـ)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001 م: 44/9
([4]) فتح المنعم شرح صحيح مسلم، الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين، دار الشروق، الطبعة: الأولى (لدار الشروق)، 1423 هـ - 2002 م: 9/413
([5]) صحيح البخاري، أبو عبدالله البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422هـ: 5/29 ، فضائل الصحابة، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل (المتوفى: 241هـ)، تحقيق: د. وصي الله محمد عباس، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة: الأولى، 1403 – 1983م: 2/755 .
([6]) فتح المنعم شرح صحيح مسلم: 9/413