بل كل ديننا عن الزهراء...
خُطَى الخزاعي
إنَّ سيرة العقلاء ومنهجهم في شؤونهم ( بصرف النظر عن الدين) قائم منذ القدم على أساس الموضوعية في الطرح والارتكاز على الثوابت العقلية المتسالم عليها عندهم ، وبذات المنهج تعبّد الله تبارك وتعالى خلقه بالأديان واحتج عليهم جاعلًا من العقل حاكمًا في ضرورة حاجة الخلق إلى الدين، فالعقيدة التي تُعَدّ أساس الدين وما سواها بناء عليها، إنَّما يُتوصَل إلى القطع بها من لدن المتعبدين بالبحث المتجرد والنظر والمعرفة، وتماشيًا مع هذا الأصل مع افتراق عنه شاسعٍ في التطبيق، كانت صناعة البديل وتسويقه إلى الواجهة أصل شذوذ الأمم منذ القدم، فعقولهم تقر بالمنهجية التي يلزم بها العقل قبل الدين، ولكن نفوسهم تأبى تحديداته وتشخيصاته، فيعمَدون إلى الجمع بين دستور الهي عقلي مع تطبيق شاذ، وما عبادة الأوثان والكواكب والنجوم وسائر المخلوقات من لدن بعض البشر المدركين وجدانًا وجود خالق إلّا شواهد على الاعتراف ضمنًا بالأصل العقلي مع تعطيل عملي له بتحديد المصداق غير الحقيقي، وأصبح هذا الفعل سيرة جارية في الامم وإن اختلفت عناوين انتماءاتها الظاهرية، وعلى هذا الضوء أُسست بنود السقيفة بعد استشهاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تعطيل التعيين الإلهي فيمن يمثل دين الله من بعد رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقديم البدائل مع الإقرار بأصل خلافته (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكانت الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) أحد ضحايا تعطيل المنهج الإلهي وتطبيقه على بدائل ثبت في حقها قرآنًا صغو القلب والانحراف مثلًا، كما جاء في قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، وجواب عمر لإبن عباس عن سؤاله بخصوص هوية هاتين المرأتين فقال:( وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! - قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَرِهَ، وَاللهِ، مَا سَأَلَهُ عَنْهُ وَلَمْ يَكْتُمْهُ عَنْهُ - قَالَ: هِيَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ)([1])، إذ صنعوا من عائشة بنت أبي بكر الشخصية النسوية الأولى في الإسلام، محاولين تقديمها بوصفها بديل لسد الفراغ الذي خلّفه اقصاء الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها)، وذلك بإلصاق الفضائل والمزايا تارةً وتأليف الموضوعات التي تحاكي أحاديث فضائل ومقامات الزهراء (صلوات الله وسلامه عليه) بهذا الاتجاه تارةً أخرى، مع دعاية إعلامية مكثّفة بهذا المجال، فالمعلوم أنَّ رسول الله قال في حق فاطمة (عليها السلام):( كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد)([2]) وقوله أيضًا:( أربع نسوة سادت عالمهن مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وأفضلهن عالما فاطمة)([3])، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):( ..فأما ابنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين)([4]) فتأتي يد التحريف وتثقف للبديل بنفس المروية مع تصرف بحذف منوع ولصق منسوخ من الخيال فتقول: ( كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ)([5])، وإن الزيادة في ذيل هذه المروية لُصقت تارة بعد ذكر آسية ومريم فقط وتارة مع اضافة خديجة([6]) وثالثة مع اضافة الزهراء([7])، ولكي تُسَوقَ تلك الفضائل المزعومة لابُّد من وجود ماكينة دعائية تبثها في الآفاق وتمررها للأجيال، كالمنقول عن (أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ قَطُّ، فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلا وَجَدْنَا عِنْدَهَا فِيهِ عِلْمًا، وَقَالَ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْصَحَ مِنْ عَائِشَةَ)([8])، وتسويق آخر مزعوم على لسان(الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: «سَمِعْتُ خُطْبَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، ...وَالْخُلَفَاءِ هَلُمَّ جَرًّا إِلَى يَوْمِي هَذَا، فَمَا سَمِعْتُ الْكَلَامَ مِنْ فَمِ مَخْلُوقٍ أَفْخَمَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْهُ مِنْ فِي عَائِشَةَ...)([9])، ( وروى ابن أبي خيثمة، والحاكم، والطبراني بسند حسن وأبو عمرو بن عساكر عن عروة بن الزبير قال: ما رأيت أحدا أعلم بالقرآن ولا بفريضة ولا بحلال ولا بحرام ولا بفقه، ولا بطبّ، ولا بشعر، ولا بحديث العرب ولا بنسب من عائشة)([10])،( وقال مسروق: والله لقد رأيت الأكابر من الصحابة، وفي لفظ مشيخة أصحاب رسول الله: الأكابر يسألون عائشة عن الفرائض)([11])( قال الحافظ: وهو متفق عليه بين أهل النقل، "وكانت فقيهة" جدا حتى قيل إن ربع الأحكام الشرعية منقول عنها كما في الفتح)([12])،( "كثيرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" روي لها ألفان بالتثنية، ومائتا حديث وعشرة، اتفق الشيخان على مائة وأربعة وسبعين، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين ومسلم بثماني وستين)([13])، محاولين بهذا الجعل منها الأنموذج الأبرز في الواجهة، كونها ربيبة السقيفة، واليد التي أسهمت في صناعتها في الخفاء، في الوقت الذي كانت ربيبة الوحي (صلوات الله وسلامه عليها) أول المنبرين لإفشال دسيسة القوم، وهنا يكمن عظمة دور الزهراء وفعلها المباين للبديل المصطنع، إذ وقفت مضحية بكل ما تملك لأجل وصول الإسلام المرضي للناس، الإسلام الذي تم وكمل بولاية أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، وبفعلها هذا أصّلت أساس التفعيل العملي لمفهومي التولي والتبري، المقوّمين للدين المقبول حصرًا عند الله، وعليه كانت الزهراء (عليها السلام) في فترة ما سببًا من أسباب وجود دين الله الحق اليوم، أمّا البديل المُسَوَق له فيكفيه تعريةً قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (عن ابن عمر قال: خرجِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيت عائشة، فقال: "رأسُ الكفر من ها هنا، من حيث يَطْلُع قَرْنُ)([14])وقوله عن ابن عمر أيضًا:( قامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خطيباً ، فأشار نحوَ مسكَنِ عائشَةَ فقالَ: "ها هُنا الفِتْنَةُ (وفي روايةٍ: ألا إنَّ الفتنَةَ ها هنا) (ثلاثاً)؛ مِن حيثُ يَطْلُعُ قرنُ الشيطانِ)([15]) ، وقد صدّقت بفعلها نبوءة رسول الله في ما تقدّم من حديث عامة وخاصة في قوله:( ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج حتى تنبحها كلال الحوأب، يقتل عن يمينها وشمالها خلق كثير، كلهم في النار وتنجو بعد ما كادت)([16])، محاربة دين الله في أوليائه، مؤسسةً أساس الخلاف وتشتت الأمة ، فحالها مع الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) يطابق مشهد يرتسم بين طرفي نزاع أحدهما، لاهم له سوى أن يوصل الدين المقبول للخلق بشرطه وشروطه باذلًا في سبيله كل ما لديه، والآخر يأبى إلّا أن يُصدّر دينًا مبتدعًا تمت صناعته وصناعة شخوصه، والحاكم في الأخذ عن أي من الطرفين موضوعية العقل السليم المجردة، وحتمًا أنَّها لا تبتغي بالزهراء بدلًا ولا عن منهجها حولًا إذا ما تخلصت من عقدة التعطيل والولاء للبدائل المزيفة.
الهوامش:
[1])) مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ):347
[2])) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، المتوفى(310ه):3/ 357
[3])) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، المتوفى (571ه):70/ 107
[4])) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، المتوفى(1111ه):43/24
[5])) البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي :4/158، مسلم، مسلم النيسابوري، المتوفى(261ه):7/133
[6])) فتح القدير، الشوكاني، المتوفى (1255ه):5/257
[7])) سنن الترمذي، الترمذي، المتوفى(279ه): 5/ 367، تفسير أبي السعود، أبي السعود، المتوفى(951ه):8/270
[8])) شرح السنة، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 516هـ):14/ 166
[9])) المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري (المتوفى: 405هـ):4/ 12
[10])) سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، وذكر فضائله وأعلام نبوته وأفعاله وأحواله في المبدأ والمعاد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي (المتوفى: 942هـ):11/ 179
[11])) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي الزرقاني المالكي (المتوفى: 1122ه): هامش 4/ 389
[12])) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: 4/ 389.
[13])) المصدر نفسه: 4/ 389.
[14])) مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ):4/383
[15])) مُخْتَصَر البُخَارِي، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين الأشقودري الألباني (المتوفى: 1420هـ):2/351
[16])) الكافئة، الشيخ المفيد، (المتوفى413) : 37.