الباحث: عماد طالب موسى
الْحَمْدُ للهِ وَإنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ، وَالْحَدَثِ الْجَلِيلِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاّ اللهُ، لَيْسَ مَعَهُ إِلهٌ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ(صلى الله عليه وآله).
أما بعد:
فنعيش هذه الأيام في اطار الحزن الذي لا يخلو من الموعظة والعبرة، وفي الوقت نفسه المفارقات العجيبة، فشهر محرم من الشهور التي حُرِمَ فيها القتال، وقد قدم سليل أعداء الإسلام على قتل سبط رسول الله الامام الحسين (عليهما السلام) وسبي حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليشكل هذا الحدث انعطافا تاريخيا فاز فيه من فاز وخسر فيه من خسر عاقبةً ودنيا، وأما شهر صفر فقد مثل غياب جسد النبي (صلى الله عليه وآله) وانتقاله الى الرفيق الأعلى ليبقى عبق تراثه البناء ينسم الدين الإسلامي، ويصدح بمعنى الإنسانية وجوهرها.
رحل بعد أن ورَّث علمه ورصَّن قواعد الإسلام بركائز أهل بيته ( عليهم السلام) ليبادروا -كما كانوا معه- أمناء على الدين ساهرون على صيانته من نجس المعتدين، إلا إن الخط المعادي للدين الإسلامي المتمثل بشق قريش الآخر من أبي سفيان صعودا ما برح ينشط بين الحين والآخر ضاربا بمعول الخيانة ونكث تعاليم الرسول (صلى الله عليه وآله) في الأمة الإسلامية، ولبيان تلك المواقف يطيب لنا أن نقف عند قولٍ للإمام علي (عليه السلام) يرد فيه على كتاب لمعاوية، جاء فيه:
(( وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَاف، فَكَذلِكَ نَحْنُ، وَلكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمَ، وَلاَ حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلاَ أَبُو سُفْيَانَ كَأَبِي طَالِب، وَلاَ المُهَاجرُ كَالطَّلِيقِ، وَلاَ الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ ، وَلاَ الْـمُحِقُّ كَالْمُبطِلِ، وَلاَ الْمُؤْمِنُ كَالمُدْغِلِ، وَلَبِئْسَ الْخَلَفُ خَلَفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ. وَفِي أَيْدِينَا بعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ، وَنَعَشْنَا بِهَا الذَّلِيلَ. وَلَمَّا أَدْخَلَ اللهُ الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً، وَأَسْلَمَتْ لَهُ هذِهِ الاُْمَّةُ طَوْعاً وَكَرْهاً، كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ: إِمَّا رَغْبَةً وَإِمَّا رَهْبَةً، عَلَى حِينَ فَازَ أَهْلُ السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ، وَذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الاَْوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ. فَلاَ تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً، وَلاَ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلاً، وَالسَّلاَمُ))([1]).
والمتأمل في هذا المقطع من خطابه (عليه السلام) يجده يشتمل على ثنائيات تمثل حركية الوجود الذي يترتب عليها عاقبة الأمور من خير وشر، صالح وطالح، وبالتالي جنة ونار، والملفت للنظر أن هذه الثنائيات جاءت متسلسلة ، وقد قدمت بدقة انطلاقا من أول تكوين الانسان، وأولى بذراته وهي النطفة وانتهاء بمصيره الذي كونه بمحض ارادته وسوء تفكيره وقياسه للأمور، فمعاوية وإن كان منتسبا إلى عبد مناف بحسب الظاهر لكنّ دنيّات أموره ورذيلات صفاته قد أخرجته من بيت الشّرف حقيقة وكم من فعال خبيثة وأعمال غير صالحة أوجبت القطع عن بيت ورحم وفي القرآن الكريم قال : (( قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ ))([2]) ، ولا يخفى عليك أنّ الورد والشّوك من أصل واحد ولكن أين هذا من ذاك ، وثانيا إنّه لمّا افتخر بانتسابه إلى عبد مناف وادّعى الاستواء بينه وبين الأمير (عليه السّلام) وأنكر فضل بعض على بعض من بيت عبد مناف أجابه الأمير (عليه السّلام) فكذلك نحن أي نسبنا ينتهى إليه أيضا ولكنّ بين آبائي وآبائك تفاوتا فاحشا ، كما أنّ بين صفاتي وصفاتك فرقا ظاهرا ومسافة كثيرة ، وتفصيله أنّ اميّة ليس كهاشم - إلخ ، بدأ عليه السّلام بذكر الأوصاف الخارجة والفضائل الطارية عليه من جهة آبائه ، والرّذائل العارضة على خصمه معاوية من
جهة أسلافه([3]) ،وويمكن تقديم قول الامام (عليه السلام) السابق على وفق مستويات، وبحسب الاتي:
اولا: المستوى النسبي:
كشف الإمام علي( عليه السلام) الفرق بين الخط الأموي والخط الهاشمي بأسلوب لغوي حجاجي رفيع يشد المتلقي ويأسر اسماعه عبر مقارنة اعقبت بتفصيل يجليها قوله عليه السلام: (وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَاف، فَكَذلِكَ نَحْنُ، وَلكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمَ، وَلاَ حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلاَ أَبُوسُفْيَانَ كَأَبِي طَالِب) ويمكن اعادة كتابتها بهذه الطريقة(*):
أمية × هاشم.
حرب × عبد المطلب.
أبو سفيان × أبو طالب.
فهذه الثنائيات متغايرة من حيث البذرة والعمل، وقد ذكرت أولا ليترقب المستمع بعدها ما الفيصل الذي على اساسه حُكِم أو فُرق بين هذين الخطين، وآباء أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام) كانوا أهل بيت شرف في قومهم ، وكان كلّ واحد منهم أشرف وأفضل وأعلى من آباء معاوية بمراحل ، أمّا أبو طالب عليه السّلام فإنّه كان زعيما حازما نبيها سيّاسا ، وله في دفع كياد الأعداء عن النبيّ والذّبّ عنه (صلَّى اللَّه عليه وآله) على الإسلام والمسلمين حقّ عظيم ، وجلالة شأنه وحسن إسلامه أشرف من الشارق وأبلج من الصّبح([4]) لذلك عمد الإمام (عليه السلام) إلى ذكرها بعد مسرد الأسماء السابق، وذلك بقوله عليه السلام:( وَلاَ المُهَاجرُ كَالطَّلِيقِ، وَلاَ الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ ، وَلاَ الْـمُحِقُّ كَالْمُبطِلِ، وَلاَ الْمُؤْمِنُ كَالمُدْغِلِ)، وهنا يأتي المستوى الثاني.
ثانيا: المستوى القيمي: قدم متتالية من الصفات الضدية تابعة لقائمة الاسماء الاولى، تبين قيمة ومكانة كل خط ، ويمكن عرضها بحسب العرض السابق للتوضيح:
- المهاجر × الطليق.
- الصريح × لصيق.
- المحق × المبطل.
- المؤمن × المدغل.
والمهاجر مصطلح عرف به الصحابة الأوائل الذين دخلوا الاسلام في مرحلته السرية وبعد أن اعلن الرسول (صلى الله عليه وآله) الدعوة الاسلامية لعامة الناس جوبه بانواع المضايقات والتعذيب مع من اتبعه من المسلمين مما تعذر الاستمرار الدعوة الاسلامية في مكة فأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) اصحابه بالهجرة الى الحبشة وبعدها الى يثرب تجنبا لأذى قريش وهمجية مواجهتم للإسلام.
والطليق مصطلح أطلق على أبي سفيان ومعاوية ويزيد عندما فتح النبي (صلى الله عليه وآله) مكة المكرمة فوقعوا في قبضته فقال لهم : ((اذهبوا فأنتم الطلقاء، فاعتقهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَمْكَنَهُ مِنْ رِقَابِهِمْ عَنْوَةً))([5])، أما ما تبقى من الثنائيات فواضح المعنى، وإلى هنا يتضح مسار كل خط في نص الامام علي (عليه السلام)، واذا تركنا الضديات المتعاكسة واستعضنا عنها بجمع الصفة بموصوفها أو ما ينطبق عليها من قول لتكون لنا الخط الناجي والمنجي من النار، من الخط الهالك والمهلك في النار، وبحسب الآتي:
خط الإيمان:
هاشم عبد المطلب أبو طالب المهاجر الصريح المحق المؤمن= حتى أصبح (َفِي أَيْدِينَا بعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ، وَنَعَشْنَا بِهَا الذَّلِيلَ).
خط الكفر:
أمية حرب = لصيق أبو سفيان = طليق . مبطل مدغل= فكانوا ( بِئْسَ الْخَلَفُ خَلَفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ)؛ لأنهم نصبوا العداء للإسلام منذ نزول الوحي على نبينا (صلى الله عليه وآله)، وعاضده وسانده أخوه و وصيه الإمام علي (عليه السلام)، وعانا ما عانا في سبيل الدين ومحاربة هؤلاء الكفرة الذين أصبحوا في ما بعد يجلسون على كفة الحكم بعدما حاربوا أهله وسدنته بالحيلة والغدر والمكر ولم يرعوا ولم يهتدوا، غرتهم الدنيا فأزهقتهم أخراهم فبئس المصير.
الهوامش:
[1])) ينظر: نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام) ، شرح محمد عبده، دار الذخائر- ايران، مطبعة النهضة- قم، ط1، 1412هـ: 3/ 17.
[2])) هود : 50 .
[3])) نهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشمي الخوئي، المتوفى : 1324
تحقيق : سيد إبراهيم الميانجي، بنياد فرهنگ امام المهدي ( عج)، مطبعة الاسلامية بطهران، ط4: 18/ 259.
(* ) نريد من الرمز(×) الخط المعاكس بين القطبين.
[4])) ينظر: شرح نهج البلاغة، حبيب الله الخوئي: 18/ 259.
[5])) تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)، دار التراث - بيروت ، ط2 - 1387 هـ: 3/ 61، وينظر: الكامل في التاريخ، أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ)، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، ط1، 1417هـ / 1997م: 2/ 125.