أمير المؤمنين علي (عليه السلام)  بين الآهات والواهات  (قراءة في نهج البلاغة - آهاته من جهل مقامه) (2):

فضائل الإمام علي عليه السلام

أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بين الآهات والواهات (قراءة في نهج البلاغة - آهاته من جهل مقامه) (2):

11K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 30-01-2019

أمير المؤمنين علي (عليه السلام)  بين الآهات والواهات

(قراءة في نهج البلاغة - آهاته من جهل مقامه) (2):

 

عمَّار حسن الخزاعي:

 

الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّد وآله الطاهرين إلى قيام يوم الدِّين...

 

مقام العصمة، مقام رفيع لا يصل إليه إلَّا من شرح الله صدره لتلقي الأسرار الإلهيَّة، فكان هذا المفهوم ينطبق على مصاديقٍ قليلة على مرِّ الزمن، ويكاد ينحصر بالرسل والأنبياء وبعض الأوصياء إذا لم يكونوا كُلُّهم، وهذه الفئة على مرِّ العصور أُبتليت بجهل النَّاس لمقاماتها العالية ومنازلها الرفيعة، فكان من جملة ما عانوا مع أقوامهم أنَّهم مجهولي المنزلة، ولا نقصد بالجهل في معناه البسيط؛ بل نعني به الجهل المركَّب؛ لأنَّ النوع الأول عندما يتصف به الإنسان فإنَّه يعلم بنفسه أنَّه جاهل ويسعى إلى التعلم ويُسلِّم بحقائق الأشياء، أمَّا النوع الآخر الذي نقصده فهو الجهل المركب، وسُمِّي مركبًا؛ لأنَّ صاحبه لا يعترف بجهله لعدم اعتقاده بأنَّه جاهل؛ بل يعتقد بنفسه أنَّه عالم ومن علية القوم، وهذه الفئة هي أشدُّ الفئات خطرًا في المجتمع وخصوصًا على أولياء الله تعالى .

 

ومن الأولياء الذين تعرَّضوا لجهل المقام والمنزلة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد مُني بعصرٍ جاهلٍ لا يعي منزلة الإمام المعصوم ولا يريد أن يعي؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون في أنفسهم العلم والفضيلة؛ بل يرون في أنفسهم أعلم من الإمام نفسه في بعض الأحيان، ومن هنا كانت تصدر آهاتٍ وواهات لأمير المؤمنين (عليه السلام) تفتُّ الحجر؛ لأنَّه كان يتعامل مع فئةٍ من الناس أغلبهم همج رعاع دينهم مصالحهم يؤمنون بالشبهة ويثورون على الحقيقة، أُناس تركوا الوعي والتفكير جانبًا وصارت تحرِّكهم شهواتهم ودنياهم؛ وكُلَّما حاول أمير المؤمنين (عليه السلام) إصلاحهم تمرَّدوا عليه أكثر متماديين بطغيانهم وجهلهم، وقد وصف (عليه السلام) حاله هذا بكلمات كثيرة نقتطف منها:

 

من قولٍ له (عليه السلام) وهو يخطب على منبر الكوفة وقد اعترضه الأشعث بن قيس قائلًا: يا أمير المؤمنين، هذه عليك لا لك، فخفض (عليه السلام) إليه بصره ثم قال: ((ومَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي؟ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللهِ وَلَعْنَةُ اللاَّعِنِينَ! حَائِكٌ ابْنُ حَائِك! مُنَافِقٌ ابْنُ كُافِر! وَاللهِ لَقَدْ أَسَرَكَ الكُفْرُ مَرَّةً وَالاسْلامُ أُخْرَى! فَمَا فَداكَ مِنْ وَاحِدَة مِنْهُمَا مَالُكَ وَلاَ حَسَبُكَ! وَإِنَّ امْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ السَّيْفَ، وَسَاقَ إِلَيْهِمُ الحَتْفَ، لَحَرِيٌّ أَنْ يَمقُتَهُ الاْقْرَبُ، وَلاَ يَأْمَنَهُ الاْبْعَدُ))([1])

 

والأشعث بن قيس، هو أحد أعمدة الجهل والنفاق التي واجهت أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكوفة، وفي النصِّ المتقدِّم يعترض على الإمام (عليه السلام) باعتراضٍ يُحاول فيه تخطئة أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان الجواب إليه بأنَّك لا تعلم ولا تعرف ما على الإمام ممَّا له؛ لأنَّك منافق ابن كافر .

 

ثمَّ يقوم له آخر معترضًا عليه في أحد المواقف قائلًا: نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها، فما ندري أيَّ الأمرين أَرشد؟ وهنا يصفق أمير المؤمنين (عليه السلام) إحدى يديه على الأخرى ثمَّ يقول: ((هذا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ! أَمَا وَاللهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ بِما أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْراً، فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ وَإِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ وَإِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ، لَكَانَتِ الْوُثْقَى، وَلكِنْ بِمَنْ وَإِلَى مَنْ؟ أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَأَنْتُمْ دَائي، كَنَاقِشِ الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا))([2])

 

وهنا يشتدُّ الأمر بأمير المؤمنين (عليه السلام) نتيجة انطباق الجهل على أصحابه، إذ ما عادون يفقهون تغيرات المواقف إزاء تغيرات الأحداث، ولا يفرقون بين الموقف والموقف الآخر، فأمير المؤمنين (عليه السلام) عندما رفض الحكومة، وهي التي دعا إليها معاوية بن أبي سفيان أجبره قومه عليها حتَّى قبل ببنودها ومنها الهدنة، وعندما تبيَّن لأصحابه خديعة معاوية لهم رجعوا لأمير المؤمنين (عليه السلام) مطالبينه بنبذ الاتفاق، وحاشا للإمام (عليه السلام) أن ينبذ عهدًا أو اتفاقًا، ومن هنا جاء اعتراض هذا الجاهل، فكان جواب أمير المؤمنين (عليه السلام) يزخر بالآهات جرَّاء هكذا أصحابٍ وأنصار .

 

وهناك من يُحاول أن ينصح أمير المؤمنين (عليه السلام) جهلًا بمقامه فيقول له لمَّا عزم على المسير إِلى الخوارج، فيقول له: يا أمير المؤمنين إن سرت في هذا الوقت، خشيتُ ألاَّ تظفر بمرادك، من طريق علم النجوم، فقال (عليه السلام) له: ((أَتَزْعَمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ؟ وَتُخَوِّفُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ الضُّرُّ؟ فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهذَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ، وَاسْتَغْنَى عَنِ الاِسْتِعَانَةِ بِاللهِ عزّ وجلّ فِي نَيْلِ الْمحْبُوبِ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ، وَتَبْتَغِي في قوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ أَنْ يُولِيَكَ الْحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ، لأنَّكَ ـ بِزَعْمِكَ ـ أَنْتَ هَدَيْتَهُ إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي نَالَ فِيهَا النَّفْعَ، وَأَمِنَ الضُّرَّ))([3])

 

وهكذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يزفر الآهات جرَّاء جهل الناس بمقامه، حتَّى قيل: إنَّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) لم يعش في العصر الذي يستحقَّه، ولا في المجتمع الذي يقدِّره، فكان يسعى جاهدًا إلى أن يُخرجهم من الظلمات التي كانوا فيها إلَّا أنَّهم كانوا يتمادون في غيِّهم وجهلهم إلَّا ما رحم ربِّي منهم، حتَّى قال فيهم: ((أُفٍّ لَكُمْ! لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً، يَوْماً أُنَادِيكُمْ وَيَوْماً أُنَاجِيكُمْ، فَلاَ أحْرارُ صِدْق عِنْدَ النِّدَاءِ، وَلاَ إِخْوَانُ ثِقَة عِنْدَ النَّجَاءِ))([4]) .

 

وقد وصل الأمر بهم أن طالبوه بأن يعترف بالخطأ ويستغفر لربِّه منه؛ لأنَّه قبل بالحكومة مع معاوية التي أجبروه عليها فقال: ((أَصَابَكُمْ حَاصِبٌ، وَلاَ بَقِيَ مِنْكُمْ آبرٌ، أَبَعْدَ إِيمَاني بِاللهِ وَجِهَادِي مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أ َشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ! لَقَدْ (ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)! فَأُوبُوا شَرَّ مَآب، وَارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الاْعْقَابِ))

 

هذا علي بن أبي طالب (عليه السلام) إمام التوحيد يصل الأمر به أن يُطلب منه أن يشهد على نفسه بالكفر حتَّى ترضى عنه شرذمة من شُذَّاذ الآفاق، وأيُّ آهاتٍ يمكن أن تُخفِّف من هذا الألم وهذه الحسرة .

 

وفي نصوص أُخرى يسعى إلى تعريفهم بنفسه (صلوات الله عليه) وبمقامه فيقول لهم: ((وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ عَنْكُمْ غَيْبُهُ، إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ، تَبْكُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، وَتَلْتَدِمُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَتَرَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ لاَ حَارِسَ لها وَلاَ خَالِفَ عَلَيْهَا، وَلَهَمَّتْ كُلَّ أمرئ مِنْكُمْ نَفْسُهُ، لاَ يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا; وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ مَا ذُكِّرْتُمْ، وَأَمِنْتُمْ مَا حُذِّرْتُمْ، فَتَاهَ عَنْكُمْ رَأْيُكُمْ، وَتَشَتَّتَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ))([5])

 

هكذا يُعامل عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) على الرغم من وصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله) به بأنَّه هو الحق، وهو سبيل النجاة، ولكنَّ القوم صمُّوا أسماعهم وأغمضوا أعينهم عن كلِّ ذلك . السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته...

...................     يتبع   ......................

 

الهوامش:

([1]) نهج البلاغة: 52 – 53 .

([2]) المصدر نفسه: 238 239 .

([3]) نهج البلاغة: 117 .

([4]) نهج البلاغة: 228 .

([5]) المصدر نفسه: 233 .

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.2733 Seconds