استشهاد عليٍّ (عليه السلام) برواية أهل السُّنَّة

مقالات وبحوث

استشهاد عليٍّ (عليه السلام) برواية أهل السُّنَّة

9K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 26-05-2019

عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
لم يكن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يومًا ما مختزلًا بفئةٍ معيَّنة؛ بل إنَّه الرجل المعجزة في هذا العالم على طول الدَّهر؛ إذ من المتعسِّر أن تجد رجلًا يتجاذبه الجميع في سعيٍ جادٍّ لأن يكون في صفِّ كلِّ فرقةٍ منهم؛ بل تُحاول كلُّ فرقةٍ أن تجعله إمامًا لها، وهذا حال أغلب فرق الإسلام إن لم نقل كلَّها. ومن السمات الخاصَّة التي امتازت بها شخصية أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّ هناك اتِّفاق على علمه وفضله وعلوِّ منزلته، ولكن يبدو أنَّ لكلِّ قاعدةٍ شواذ، إذ يظهر بين الحين والآخر من يُصدِّر بعض فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) ومناقبه على أنَّها رواياتٍ شيعيَّة انفرد بروايتها الشيعة، وأصبح الترويج لهكذا أفكار يكثر في الآونة الأخيرة، ونحن في هذه العجالة نريد أن نُسلِّط الضوء على حادثة استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ لما فيها من أحداث قد يظنُّ المتتبِّع أنَّها رواياتٍ مختصرة على الشيعة فقط.
تبدأ قصَّة الاستشهاد من معرفة أمير المؤمنين (عليه السلام) بقاتله معرفةً عينيَّة، وبكيفيَّة قتله، والوقت الذي يُقتل فيه، وقد رُوي ذلك بمصادر متعدِّدة بما نصُّه: ((دَعَا عَلِيٌّ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ. فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ الْمُرَادِيُّ فَرَدَّهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: مَا يَحْبِسُ أَشْقَاهَا، لَتُخَضَّبَنَّ أَوْ لَتُصْبَغَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذَا، يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ رَأْسِهِ، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ:
اشْدُدْ حَيَازِيمَكَ لِلْمَوْتِ ... فَإِنَّ الْمَوْتَ آتِيَكَ
وَلا تَجْزَعْ مِنَ الْقَتْلِ ... إِذَا حَلَّ بِوَادِيكَ))([1])
وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا رأى ابن ملجم (لعنه الله) يتمثَّل بقول الشاعر:
أُرِيدُ حِبَاءَهُ وَيُرِيدُ قَتْلِي ... عَذِيرُكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرَادِ([2])
على أنَّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) كان يُرجع علمه بقاتله إلى عهدٍ معهود من النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ويُقسم على ذلك فيقول: ((وَاللَّهِ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) إِلَيَّ))([3]).
ولمَّا قرب عهد رحيله (عليه السلام) من هذه الدُّنيا صار يُردِّد ((مَا يَحْبِسُ أَشْقَاكُمْ أَنْ يَجِيءَ فَيَقْتُلَنِي؟ اللَّهُمَّ قَدْ سَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي فَأَرِحْهُمْ مِنِّي وَأَرِحْنِي مِنْهُمْ))([4])، وقوله أيضًا لأصحابه: ((لَتُخَضَّبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ فَمَا يُنْتَظَرُ بِالأَشْقَى، قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَخْبِرْنَا بِهِ نُبِيرُ عِتْرَتَهُ، فَقَالَ: إِذًا وَاللَّهِ تَقْتُلُوا بِي غَيْرَ قَاتِلِي))([5]) .
أمَّا دوافع ابن ملجم في قتله لأمير المؤمنين (عليه السلام)؛ فهي لم تكن دوافع دينيَّةٍ بحتة؛ بل اشتركت معها نوازع الشهوة الدنيويَّة، نعم في بادئ الأمر من الممكن أن يكون دافع ابن ملجم دينيًّا نتيجة عقيدةٍ فاسدة، ولكنَّه في اللحظات الأخيرة دخلت معه نوازع الشهوة الدنيويَّة؛ بل قد تكون هي المحرِّك الأساس قبيل ارتكاب الجريمة، وهذا الأمر يمكن أن نستشفَّه من لقاء ابن ملجم بقطام (لعنة الله عليهما) وذلك فيما نُقل بهذا النص: ((إِلَى أن وقعت عينه على قطام، وكانت امرأةً رائعةً جميلةً، فأعجبته ووقعت بنفسه فخطبها، فقالت: آليت ألَّا أتزوج إلا على مهرٍ لا أريد سواه فقال: وما هُوَ؟ فقالت: ثلاثة آلاف، وقتل علي بْن أَبِي طالب، فقال: والله لقد قصدت لقتل علي بْن أَبِي طالب والفتك بِهِ، وما أقدمني هَذَا المصر غير ذَلِكَ، ولكنِّي لما رأيتك آثرت تزويجك، فقالت: ليس إلا الَّذِي قلت لك))([6])، ودليل ما قلناه أنَّ ابن ملجم عدل عن رأيه عندما رأى قطام، وصار يميل إلى الدعة والاستقرار وتحوَّل من مريدٍ للقتل إلى خاطب يبتغي الزواج؛ ولكنَّه غواه جمال قطام فأقدم على جريمته حبًّا بنوال وصالها . ثمَّ إنَّ ابن ملجم استعان بخارجيٍّ آخر يُدعى شبيب بن بجرة الأشجعي، وكان تخطيطها على أن يغدرا به وقت الصلاة([7]) .
وفي تلك الليلة التي جُرح بها أمير المؤمنين (عليه السلام) ينقل الإمام الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام) قائلًا: ((وَأَتَيْتُهُ سَحَرًا فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي بِتُّ اللَّيْلَةَ أُوقِظُ أَهْلِي فَمَلَكَتْنِي عَيْنَايَ وَأَنَا جَالِسٌ فَسَنَحَ لِي رَسُولُ اللَّهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الأَوَدِ وَاللَّدَدِ، فَقَالَ لِي: ادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ أَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْرًا لِي مِنْهُمْ وَأَبْدِلْهُمْ شَرًّا لَهُمْ مِنِّي))([8]) .
وتحقق الميعاد فجاء الغادران إلى المسجد مع ابن عمِّ قطام وردان يبتغون الغدر؛ لأنَّهم أقلُّ بكثيرٍ من أن يواجهوا أمير الشجاعة وفارس البطولة، وقد استغلوا وقت الصلاة ونفذّوا جريمتهم الشنعاء، ولمَّا ضرب ابن ملجم أمير المؤمنين (عليه السلام) صاح: ((فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ))([9])، وهنا تتعالى الأصوات ويقبض المصلِّين على ابن ملجم فيقول لهم أمير المؤمنين (عليه السلام): ((إِنَّهُ أَسِيرٌ؛ فَأَحْسِنُوا نُزُلَهُ وَأَكْرِمُوا مَثْوَاهُ، فَإِنْ بَقِيتُ قَتَلْتُ أو عفوت، وإن متُّ فاقتلوه قتلتي، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ))([10])، ثمَّ كرَّر وصيته به فقال: ((أَطِيبُوا طَعَامَهُ وَأَلِينُوا فِرَاشَهُ؛ فَإِنْ أَعِشْ فَأَنَا أَوْلَى بِدَمِهِ عَفْوًا وَقِصَاصًا، وَإِنْ أَمُتْ فَأَلْحِقُوهُ بِي أُخَاصِمُهُ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ))([11]) .
وابن ملجم بفعلته هذه صار شقيًّا بنصِّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندما سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((يَا عَلِيُّ مَنْ أَشْقَى الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَشْقَى الأَوَّلِينَ عَاقِرُ النَّاقَةِ، وَأَشَقَى الآخَرِينَ الَّذِي يَطْعَنُكَ يَا عَلِيُّ، وَأَشَارَ إِلَى حَيْثُ يُطْعَنُ))([12]) . ولمَّا وصل خبر استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عائشة بنت أبي بكر فرحت وقرَّت عينها وتمثَّلت بقول الشاعر:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّتْ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالإِيَابِ الْمُسَافِرُ([13])
وما كانت نقمتها مع من يشترك معها بالمشاعر على أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلَّا لأنَّه ((جرَّد على أسباب الدين تجريدًا، وأغضى عن التمويه والتبديل، ولزم الطريقة الواضحة، ورام رد الناس عن تمكنهم من الدنيا وتمتعهم بنزهتها وطيباتها على ما كان عليه المصطفى (صلَّى الله عليه [وآله] وسلم)، فالتاثت عليه الأمور حتَّى كان من أمره ما كان من الحوادث... وهو مصر في ذلك كله على إظهار الدين والعزوف عن هذه الفانية القذرة، على ما كان فيه ما كان من غير أن تأخذه في الله لومة لائم))([14]). وقد جُرح ((لثماني عشرة ليلة مضت من رمضان، وقُبِضَ في أول ليلة من العشر الأواخر))([15]).
وهذا بمجمله ما يقوله الشيعة في خبر استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) مع تفاصيل أُخرى لا يسع المقام لذكرها مع أنَّ لها أصولًا في كتب السُّنة . ألا لعنة الله على قتلة أمير المؤمنين وظالميه ...

الهوامش:
([1]) الطبقات الكبرى: 3/24 ، معرفة الصحابة: 1/84 ، ينظر: الوافي بالوفيات: 18/173 .
([2]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1127 ، الوافي بالوفيات: 18/173 .
([3]) الطبقات الكبرى: 3/24 .
([4]) المصدر نفسه .
([5]) الطبقات الكبرى: 3/24 ، ينظر: الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار: 433 .
([6]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1124 .
([7]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1124 .
([8]) الطبقات الكبرى: 3/26 ، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1127 .
([9]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1124 ، أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/102 .
([10]) الطبقات الكبرى: 3/25 ، ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1125 .
([11]) الطبقات الكبرى: 3/27 .
([12]) المصدر نفسه: 3/25 .
([13]) المصدر نفسه: 3/29 .
([14]) مشاهير علماء الأمصار وأعلام فقهاء الأقطار: 24
([15]) تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 6/471 .

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3639 Seconds