الباحث: علي عباس فاضل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد:
مع سكون الليل وبزوغ الفجر ونسمات الصباح خرج ذلك الإمام الذي ملأ الأرض عدلا كعادته لمحراب صلاته ليتم ما عليه من واجب تجاه ربه، خرج والمنايا تحوط به، وسيف الغدر ينتظره قرب محرابه بيد أشقى الأولين والآخرين، فلم يأبه بالموت، كيف وهو المقاتل الذي خاض غمار معارك كثيرة كان المنتصر فيها جميعا، كيف وهو الذي صرع أبطال العرب وأشدائهم إذا ما قابلوه، كيف وهو الذي قاتل مع الملائكة صفا لصف، كيف وهو الذي لم يَخَفْ أهلَ الشرك صبيًّا، كيف وهو الذي لم يهب الموت ونام نوما هنيئًا وقد أحاطه أهل الشرك ليقتلوه، كيف، وهو الذي هاجر علانية بالنساء الفواطم وصان الأمانة، كيف وهو الذي لو كشف له الحجاب ما ازداد يقينا، كيف وكيف
ذلك هو أمير المؤمنين وسيد الخلق بعد رسول رب العالمين (صلوات الله عليهم) الذي لم يستطع أن يواجهه أحد في قتال فاتبعوا الغدر ليتمكنوا منه، وأي غدر ذلك وهو في محرابه وبين يدي الخالق، في هذه الحال التي يكون فيها أمير المؤمنين عليه السلام منعزلا تماما عن عالم الدنيا، تمكن اللعين المرادي من تحقيق هدفه بضرب الإمام بسيف سام على رأسه، حتى تخضب محرابه، فأتم صلاته وجعل يشد الضربة ويضع التراب على رأسه وهو يقول: (مِنْـها خَلَقْنَاكُـمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)([1])، ثمّ قال : جاء أمر اللَّه وصدق رسول اللَّه ثمّ إنه لما ضربه الملعون ارتجّت الأرض وباحت البحار والسماوات واصطفقت أبواب الجامع .
فلما سمع الناس الضجة ثار إليه كلّ من كان في المسجد وصاروا يدورون ولا يدرون أين يذهبون من شدّة الصدمة والدهشة ، ثم أحاطوا بأمير المؤمنين وهو يشدّ رأسه بميزره والدم يجرى على وجهه ولحيته وقد خضبت بدمائه وهو يقول: (هَذَا مَا وَعَدَنا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ)([2]). فاصطفقت أبواب الجامع وضجّت الملائكة في السّماء بالدّعاء وهبّت ريح عاصف سوداء مظلمة ، ونادى جبرئيل بين السّماء والأرض بصوت يسمعه كلّ مستيقظ: تهدّمت واللَّه أركان الهدى ، وانطمست واللَّه نجوم السّماء، وأعلام التّقى وانفصمت واللَّه العروة الوثقى، قتل ابن عمّ محمّد المصطفى قتل الوصيّ المجتبى قتل عليّ المرتضى، قتل واللَّه سيّد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء([3]).
كان أمير المؤمنين عليه السلام على علم بأن لحيته ستخضب بدم رأسه الشريف، إذ أخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله)، روي (عن علي بن الحسن عن علي الرضا عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين على (عليهم التحية والسلام) قال :إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبنا فقال :أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة . وذكر فضل شهر رمضان .
ثم بكى فقلت : يا رسول الله ما يبكيك ؟
قال : يا علي أبكى لما يستحل منك في هذا الشهر ، كأني بك وأنت تريد أن تصلى وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين ، شقيق عاقر ناقة صالح ، يضربك ضربة على رأسك فيخضب بها لحيتك .
فقلت : يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني .
قال : في سلامة من دينك .
قلت : هذا من مواطن البشرى والشكر)([4]).
فأمير المؤمنين عليه السلام لم يأبه بنفسه ولا بالموت الذي يحل عليه ولكن كعادته يقدم الدين على كل شيء، فتراه لا يسأل عن حاله، بل عن سلامة الدين، فلما علم أنه في سلامة من دين الله ، استبشر وشكر، فالموت عند أمير المؤمنين عليه السلام ما هو إلا عادة، وانتقال من دار الفناء إلى دار النعيم والبقاء، فهو يأنس بالموت، إذ يقول: (فَإِنْ أقُلْ يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى الـمُلْكِ، وَإنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا: جَزعَ مِنَ المَوْتِ! هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي! وَاللهِ لاَبْنُ أَبي طَالِب آنَسُ بالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْي أُمِّهِ)([5]).
فأمير المؤمنين عليه السلام يبين في هذا النص رؤية للموت وكيف يستأنس به كالطفل الرضيع عندما يرضع من ثدي أمه، وهذا التشبيه يشير إلى حلاوة الموت عنده عليه السلام، فكان يطلبه لينال الشهادة ويلقى ربه مخضبًا بدمه، يقول عليه السلام: (فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْر، وَقُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُد، وَقُتِلَ جعفر يَوْمَ مُؤْتَةَ(3)، وَأَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ، وَلكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ،مَنِيَّتَهُ أُجِّلَتْ)([6]).
ومما روي أيضا في طلبه الشهادة ما جاء عنه عليه السلام (عن النَّبي صلى الله عليه وآله قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: (من أشقى الأولين) ؟ قلت: عاقر الناقة . قال: (صدقت. فمن أشقى الآخرين)؟ قلت: لا علم لي يا رسول الله. قال: (الذي يضربك على هذا وأشار بيده على يافوخه فيخضب هذه من هذه يعني لحيته من دم رأسه) قال : فكان يقول: وددت أنه قد انبعث أشقاكم))([7]).
وفي الختام: نرفع آيات العزاء لمولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف بهذا المصاب الجلل، ونسأل العلي القدير أن يحشرنا معهم في الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب.
الهوامش:
[1] سورة طه: 55.
[2] سورة الأحزاب: 22.
[3] ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، الخوئي: 5/ 150- 151.
[4] ينابيع المودة لذوي القربى: 1/ 166- 167.
[5] نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 52.
[6] نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 369.
[7] ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 9/ 117، وشرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: 3/ 209، بحر الأنوار: 42/ 277، البداية والنهاية: 7/ 358- 369.