البَاحِث: سَلَام مَكيّ خضيّر الطَّائِيّ
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الخلق والمرسلين، أبي القاسم مُحمَّد وآله الطَّيِّبين الطَّاهرين، واللعن الدَّائم على أعدائهم أجمعين، من الأوَّلين وآخرين، ما بقيت وبقي اللَّيل والنَّهار، إلى قيام يوم الدِّين...وبعد:
أهل البيت (عليهم السَّلَام) هم هُداة الأمَّة من الضَّلال إلى النُّور ومن الباطل إلى الحقّ، ففي شهر من شهور السَّنة الهجرية المُباركة، بزغ نور من أنوار هؤلاء الهُداة الأطايب (عليهم السَّلَام) من أغصان الدَّوحة المُحَمَّديَّة، يُستضاء ويُهتدى به إلى الطَّريق القويم، ألا وهو نور الحُجَّة الثانية عشرة على العالمين، وعاشر الأئِمَّة المعصومين: الإمام الهمام هادي المضلّين أبو الحَسَن الثَّالث عَلِيّ الهَاديّ بن مُحَمَّد الجَوَاد (عليهم الصَّلَاة والسَّلَام).
اسمه ونسبه الطَّاهر (عليه السَّلَام):
هو أَبُو الحَسَن عَلِيّ بن مُحَمَّد الجواد بن عَلِيّ الرِّضَا بن مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادق بن مُحَمَّد الباقر بن عَلِيّ زين العابدين بن الحُسَين السّبط الشَّهِيد بن أمير المؤمنين الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليهم السَّلَام) وهو العاشر من أَئِمَّة أهل البيت (عليهم السَّلَام) وأُمّه سمانة أُمّ ولد.
ولادته (عليه السَّلَام) ونشأته:
وُلد الإمام ولده عَلِيّ بن مُحَمَّد الهَاديّ النَّقيّ (عليه السَّلَام)، بقرية أسسها جدّه الإمام مُوسَى بن جَعْفَر الكَاظم (عليهما السَّلَام)، وهي على ثلاثة أميال من المدينة تسمَّى (صريا) من المدينة المنورة يوم الجمعة الثاني من رجب وقيل في الخامس منه، سنة اثنتي عشرة ومائتين[1]، وقيل في منتصف ذي الحجّة من تلك السَّنة[2]، وأُمّه أم ولد يقال لها سمانة المغربية ويقال إن أمه المعروفة بالسيدة أم الفضل، فأقام مع أبيه الإمام مُحَمَّد الجَوَاد (عليه السَّلَام) ست سنين وخمسة أشهر، فنشأ معه نشأةً علويّة مُحَمَّديَّة، فانهل من أبيه الجَوَاد (عليه السَّلَام) مكارم الأخلاق والورع والإيمان بالله تعالى وجمال الصّفات، وكان (عليه السَّلَام) خير من يمثله بعده (عليه السَّلَام)[3].
- كنيته وألقابه :
يُكنّى الإمام (عليه السَّلَام) بأبي الحَسَن، ويُقال له (عليه السَّلَام) أبو الحَسَن الثَّالث، للتّمييز بينه وبين الإمام الكاظم والإمام الرِّضَا (عليه السَّلَام)؛ لأنَّهُ كل واحد منهما يُكنَّى بأبي الحَسَن[4].
أمَّا ألقابه: (عليه السَّلَام) فهي عديدة، فمنها: الهَادِيّ والنّقيّ وكان (عليه السَّلَام) مُشتَهِرًا بهما[5]، النَّجيب والعالم، والدَّليل، والموضح، والرَّشِيد، والشَّهِيد، والوفي، والفقيه، العسكري، الأمين، المؤتمن، الطيب، النّاصح، والفتاح، والمرتضى، والخالص، والمتوكّل، وكان (عليه السَّلَام) لا يحبّذ على ما وصلنا أن يُنادى بـ(المتوكّل) ويأمر أصحابه أن يعرضوا عن ذكر ذلك اللَّقب، لأنَّ أحد حكَّام بني العبَّاس الذين نصبوا أرواحهم لقيادة الأمَّة يلقَّب بـ (المتوكّل)، وهو ليس بمتوكّل، وهذا اللَّقب كان أجدر أن يُلقَّب به إمَامنا عَلِيّ الهَادِيّ (عليه السَّلَام)[6].
ويروى: أنَّه (عليه السَّلَام) لُقِّب بالعسكري؛ لأنّه أشخص من المدينة النَّبويَّة إلى سرّ من رأى، وأسكن بها وكانت تسمّى: العسكر، فعرف بالعسكريّ، وهذا اللَّقب لحق بابنه أبي مُحَمَّد الحَسَن (عليه السَّلَام) وأصبح أحد ألقَابه، أي: يلقَّب بالإمام الحَسَن العَسْكَرِيّ بن الإمام عَلِيّ الهادِيّ (عليهما السَّلَام)[7].
إمامته (عليه السَّلَام) والنّصوص الدَّالة عليها:
تصدّى أبو الحَسَن الإمام عَلِيّ بن محمَّد الهادي (عليهم السَّلَام) للإمامة وتولِّي أمر الأُمَّة الإسلاميَّة في سنّ السَّادسة من عمر الشَّرِيف بعد شهادة أبيه الإمام أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَلِيّ الجواد (عليهم السَّلَام)[8]، فكانت مدة إمامته (عليه السَّلَام) ثلاثًا وثلاثين سنة ويقال وتسعة أشهر، ومدّة مقامه بسرّ من رأى من العراق عشرين سنة[9]، وهناك العديد من النّصوص الواردة عن أبيه مُحَمَّد بن عَلِيّ الجَوَاد (عليهما السَّلَام) يقول فيها ويؤكّد على إمامة وَلَده الإمام أبي الحسن الثَّالث عَلِيّ الهَادي (عليه السَّلَام) من بعده، وذلك لاجتماع شروط الإمامة وخصال الإمام وصفاته فيه (عليه السَّلَام)؛ ولتكامل فضله وعلمه وورعه ودينه، وأنّه لا وارث لمقام أبيه سواه (عليه السَّلَام)، ولثبوت النّص عليه من أبيه (عليه السَّلَام)[10]، روي عن إسماعيل بن مهران، قال: لما خرج أبو جَعْفَر مُحَمّد الجَوَاد بن عَلِيّ الرِّضَا (عليهما السَّلَام) من المدينة إلى بغداد بطلب المعتصم، قلت له عند خروجه جعلت فداك إني أخاف عليك من هذا الوجه، فإلى من الأمر بعدك؟ فبكى (عليه السَّلَام) حتّى بلّ لحيته، ثم التفت إليّ، فقال: (الأمر من بعدي لولدي عَلِيّ)[11].
صفاته (عليه السَّلَام) ومكارم أخلاقه:
كان الإمام أبو الحسن العسكري عَلِيّ بن مُحَمَّد الهادي (عليهم السَّلَام) وارث أبيه علمًا ومنحًا، نقش على خاتمه عبارة: (الله ربّي وهو عصمتي من خلقه)[12]، وكان فقيهًا فصيحًا جميلًا مهيبًا، ذا إيمان وورع، أطيب النّاس مهجة، وأصدقهم لهجة، وأملحهم من قريب، وأكملهم من بعيد، إذا صمت عليه هيبة الوقار، وإذا تكلم سيماء البهاء، وهو من بيت الرسالة والإمامة، ومقر الوصية والخلافة شعبة من دوحة النّبوّة منتضاه مرتضاه، وثمرة من شجرة الرِّسالة مجتناه مجتباه[13]، وكان (عليه السَّلَام) كريمًا جوادًا، فمن تتبَّع سيرته وجد أنَّ جميع مكارم الأخلاق تجتمع فيه (عليه السّلَام)؛ كأجداده (عليهم السَّلَام)، فهو (عليه السَّلَام) لا يضاهيه أحد في مكارم الأخلاق وحُسن الصّفات، فمن مكارم أخلاقه (عليه السَّلَام) ما حل في الأذان محل حلاها بأشنافها، واكتنفته شغفا به اكتناف اللآلئ الثّمينة بأصدافها، وشهد لأبي الحَسَن (عليه السَّلَام) أن نفسه موصوفة بنفائس أوصافها، وأَنَّها نازلة من الدّرجة النَّبويّة في ذرى أشرافها، وشرفات أعرافها، وذلك أَنَّ أبا الحَسَن الإمام عَلِيّ الهَادِيّ (عليه السَّلَام) كان يومًا قد خرج من سر من رأى إلى قرية لمُهمٍّ عرض له، فجاء رجل من الأعراب ... فقصده، فقال له الإمام (عليه السَّلَام): (ما حاجتك؟)، قال: أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسكين بجدِّك عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام)، وقد ركبني دين فادح أثقلني حمله، ولم أرَ من أقصده لقضائه غيرك، فقال له أبو الحَسَن (عليه السَّلَام): (طب نفسًا وقر عينًا)، فلما أصبح ذلك اليوم قال له أبو الحَسَن (عليه السَّلَام): (أريد منك حاجة الله الله أن تخالفني فيها)، فقال له الاعرابي: لا أخالفك فيها، فكتب أبو الحَسَن (عليه السَّلَام) ورقة بخطّه، معترفًا فيها أن عليه للإعرابي مالا عينه فيها يرجح على دينه وقال: (خذ هذا الخط، فإذا وصلت إلى سرّ من رأى فاحضر إلي وعندي جماعة فطالبني به، وأغلظ القول عَلَيَّ في ترك إيفائك إيَّاه، والله الله في مخالفتي) فقال: أفعل، فلما وصل أبو الحَسَن (عليه السَّلَام) إلى سرّ من رأى وحضر عنده جماعة كثيرون...، حضر ذلك الرّجل وأخرج الخط، وطالبه وقال كما أوصاه، فألان له أبو الحَسَن (عليه السَّلَام) القول ورقَّقه له، وجعل يعتذر إليه، ووعده بوفائه، وطيبه نفسه، فنقل ذلك إلى المتوكل العبَّاسي آنذاك، فأمر أن يحمل إلى أبي الحَسَن (عليه السَّلَام) ثلاثون ألف درهم، فلمَّا حملت إليه تركها إلى أن جاء الأعرابي فقال (عليه السَّلَام): (خذ هذا المال اقضِ منه دينك، وأنفق الباقي على عيالك وأهلك، واعذرنا))[14].
فهذا موجز عن الإمام عَلِيّ الهَادِيّ بن مُحَمَّد الجَوَاد (عليهما السَّلَام)، ونسأل الله تعالى أن يتقبله منَّا بأحسن قبول بمُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله) وآله الأطهَار (عليهم السَّلَام)، واللّعنة الدَّائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدِّين إنَّه سميعٌ مُجيب...
الهوامش:
[1] ينظر: الأنوار البهيَّة، الشَّيخ عبَّاس القُمّي: 273.
[2] ينظر: كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء: 1/100.
[3] يُنظر: بحار الأنوار، العلَّامة المجلسي: 50/114.
[4] يُنظر: أعيان الشِّيعة، السَّيِّد مُحسِن الأمين: 2/37.
[5] يُنظر: المصدر نفسه: 2/37.
[6] يُنظر: مطالب السَّؤُول في مناقب آل الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله)، مُحمَّد بن طلحة الشَّافعيّ: 472، وقادتنا كيف نعرفهم؟، السَّيِّد مُحَمَّد هاديّ الميلاني: 4/321، وموسوعة المعصومين (عليهم السَّلَام)، ولُجنة الحديث في معهد باقر العُلَوم (عليه السَّلَام): 3/308.
[7] ينظر: قادتنا كيف نعرفهم؟، السَّيِّد مُحَمَّد هاديّ الميلاني: 4/321.
[8] يُنظر: موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (عليهم السَّلَام)، مؤسسة دائرة المعارف الفقه الاسلامي: 1/141.
[9] ينظر: بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 50/114.
[10] ينظر: قادتنا كيف نعرفهم؟، السَّيِّد مُحَمَّد هاديّ الميلاني: 4/322.
[11] قادتنا كيف نعرفهم؟، السَّيِّد مُحَمَّد هاديّ الميلاني: 4/323.
[12] شرح إحقاق الحق، السَّيِّد المرعشي: 29/23.
[13] بحار الأنوار: 50/114.
[14] ينظر: مطالب السَّؤول في مناقب آل الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله)، مُحَمَّد بن طلحة الشَّافعيّ: 472-474.