البَاحث: سَلَام مَكّيّ خضَيّر الطَّائِي.
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصَّلَاة والسَّلَام، على أشرف الخلق والمرسلين، أبي القاسم مُحَمَّد وآله المنتجبين، واللّعن الدَّائم على أعدائهم ومبغضيهم وناكري حقّهم، ما بقيت وبقي اللَّيل والنَّهار إلى قيامِ يوم الدِّين...
أمَّا بعد...
فانطلاقًا من كلام الإمام (عليه السَّلَام) الذي اتّخذناه عنوانًا لمقالنا هذا، نفهم أن هناك تحذيرًا من عبودية الإنسان لشهوته وهواه، لما تحتويها هذه العبوديَّة من مخاطر تضر به وبشخصه، فيصبح معينًا لشهوته على إذلال نفسه وهلاكها، فروي عن أمير المؤمنين الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) أنَّه قال: (من أطاع نفسه في شهواتها فقد أعانها على هلكها)[2]، فيصبح أمام شهواته وأهواءه ذليلًا أذل من عبيد الرّق الذي يخضع لمولاه ويتذلل له، وقد يكون هذا العبد يمارس هذه المهنة عن كره وغير راضٍ، بل يكون مجبرًا على ذلك بحسب الغلبة والقهر والخوف من الأذى وحينئذ تكون الأعمال الصادرة عن ذلك غير منظومة ولا تامة، ومع ذلك لا يخلو من مشاغبة ونفرة طبع يلحقه بحسب ملال يعرض له أو بحسب شرّة في طبعه بحيث لا يفي بضبطها السَّيِّد، فلا يصدق معها الخضوع والامتهان والتَّذلل لذلك الأمر، وأما خضوع الشخص المنقاد لشهوته وامتهانها له كشهوة حبّ الأموال وجمعها وحبّ مراكز السّلطة وغيرها من شهوات ومغريات الدّنيا الزائلة الأخرى، فتجد هذا الإنسان بحسب انقياده وخضوعه لشهوته ممعنًا في امتهان نفسه بإحكام ما يصدر عنه من الأفعال واتقان ما يتحرك فيه من الأعمال من غير سأم ولا نفار ومن دون أنفة أو من دون مراعاة حشمة وجاه وحتَّى يمكن أن نقول: أنَّ بشهوته هذه وخضوعه لها قد يتعدَّى حدود الله تعالى في أمرٍ ما؛ كالسّرقة وقتل النَّفس مثلًا والزّنى والعياذ بالله ممَّا ذُكر، وإذا عرفت ذلك ظهر لك أن ذل عبد الشَّهوة أقوى من ذل الرّق بأضعاف مضاعفة، وإنَّ من ساوى بينهما فقد فَقَدَ الإنصاف وكابر عقله، وذلك مفهوم مقصده العزيز وسر لفظه الجزيل الوجيز، فقد يكون عبد الرّق عبدًا لشخصٍ صالح مطيع لله تعالى ولرسوله (صلَّى الله عليه وآله) ولآل بيته الأطهار (عليهم السَّلَام)، على عكس عبد شهوات الدّنيا، ففي كلام الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلام) تنبيه على وجوب قهر الشّهوة ومحاربتها وكسرها وإذلالها، وهذا لا يكون إلَّا بالإيمان الصَّادق والنِّيَّة الخالصة لله (عزَّ ذكره)، إذا كانت هذا الشَّهوة تدعو إلى اتباع خُطى الشَّيطان والعدول عن طاعة الرَّحمن سبحانه، وعصيانه والخروج عن طريق الصَّواب، وكان كثير - ممن يدّعي الشَّرف والفضل والأصالة ويزعم أَنّه كامل العقل ويسخط ويأنف أن ينسب إليه نقصان ورذيلة ويأبى أن يسلب عنه كمال وفضيلة، فضلًا عن أن يقال: هو عبد أو رق لشخص ما- منقادًا في أسر الشَّيطان متهالكًا في طاعته، وهو عن رشده غافل، مذعنًا ومشتغلًا بقبول أوامر شهوته، وهو لما يراد به جاهل، حتى يتنبه بهذه الإشارة اللّطيفة على أنّه إذا كانت أنفته وعزّة نفسه ونفار طبعه من أن يقال عنه: أنّه رق لفلان العبد الصَّالح إنّما كان لما في ذلك من الخضوع والامتهان ولما ينسب إليه من النّقصان فلم ارتكب من طاعة شهوته والانقياد لها ما يوجب له الامتهان التَّام الذي هو أشد والنّقصان اللَّازم الذي هو آكد، بل ما يعده للعذاب الأليم بسبب زيغه عن الصّراط المُستقيم وهل ذلك إلَّا من جهله بالعواقب وقلّة عقله لما يلزمه من المصائب؟ فالجواب على ذلك: لا بد من أنَّه كان يجهل عواقب الأمور وما يترتَّب على اتّباع الشَّهوة والهوى ولو لا ذلك الجهل لما استهوته شهوته ولا استرقته وأصبح عبدًا ذليلًا لها أكثر من عبوديَّة الرّق[3]، وهذا ما نجده واضحًا فيما ورد من كلامٍ للإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام)، إذ إنَّه قال: (الشَّهَوَات تَستَرقّ الجَهُول)[4].
فينبغي للعاقل كما يأنف من أن يقال له: انّك عبد لمولى أن يأنف من أن يقال له: أنت رق الشَّهوة والهوى، فيتقهقر عن متابعة الشّيطان ليخلص من أسره، وينقاد لآثار الرّحمن وينفعل عن أَمره[5]، ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾[6].
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يرحمنا برحمته الواسعة، وأن يُصلّيَ على نبيّنا مُحمَّد وآلِه الطَّيِّبين الطَّاهرين، ويلعن أعدائهم أجمعين، ما بقيت وبقي اللَّيل والنَّهار، إلى قيام يوم الدِّين...
الهوامش:
[1]عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي: 341.
[2] ميزان الحكمة، مُحَمَّد الرّيشهري: 4/3479.
[3] ينظر: شرح مئة كلمة لأمير المُؤمنين (عليه السَّلَام)، ابن ميثم البحراني: 117-118.
[4] عيون الحكم المواعظ، عَلِيّ بن محمَّد الواسطيّ: 35.
[5] ينظر: شرح مئة كلمة لأمير المُؤمنين (عليه السَّلَام): 119.
[6] النّساء: 119.