خُطَى الخُزَاعي
ما كان الله تعالى ليذرَ حدثًا أعظمًا كبيعة الغدير يمرُّ في التاريخ مرورًا هامشيًّا غير مُلتَفَتٍ إليه؛ لتتصدر صغائر الأُمور وافتراءات الوضَّاعين مشهد المتن للرسالة الإلهية الخاتمة؛ بل أجرى إرادته تعالى في الجعل من تلك الواقعة تجلٍ أجلى للحجة البالغة المُلزِمة على العباد، بنحوٍ مُتقَن في قطعه للسبل أمام أيِّ عذر متصور وحجة مفترضة للمشككين فضلًا عن المنكرين لها، موليًّا تبارك وتعالى تفاصيل الحادثة وجزئياتها عناية فائقة قوامها توليفة تكوينية تشريعية غلب عليها طابع الشدة والحزم الأدعى في ترسيخ الواقعة والتأثير على المتلقين، فأمَّا الخطاب الإلهي فقد كان مختلفًا عن سابقاته هذه المرة، إذ أُضفي على ما تضمنه من أمر مزيد من الحزم لم يُعهد فيما مضى؛ ببيانه (جلَّ وعلا) أنَّ ترك تبليغ هذا الأمر بمنزلة عدم تبليغ الرسالة من أصل، فجعله والرسالة سواء، متكفِّلًا بحماية نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمته التي ألمح إلى عدم تقبل غالبها لهذا الأمر الحازم، إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة: 67) فيستجيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلَّم) قائلًا: ((تهديد بعد وعيد، لأمضينَّ أمر الله (عزَّ وجلَّ)، فإن يتهموني ويكذبوني، فهو أهون عليَّ من أن يعاقبني العقوبة الموجعة في الدنيا والآخرة))([1])، ثم ينبري (صلى الله عليه وآله وسلم) مفصِّلًا المراد الإلهي من التبليغ قولًا وفعلًا بدائرته المقصودة، موصدًا الباب أمام التكهنات والتصورات والاحتمالات في القصد الإلهي، إذ حفل خطابه (صلوات الله وسلامه عليه) في غدير خُمٍّ بالعديد من القرائن المقالية الصارفة عمَّا يُتَشدقُ به من الوجوه باتجاه الوجه المصرَّح به من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا غير، كلفظة المولى مثلًا الواردة في الخطاب النبوي عَنِ ((الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا بِغَدِيرِ خُمٍّ، فَنُودِيَ فِينَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، وَكُسِحَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَتَيْنِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ فَقَالَ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالِاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ»، قَالَ: فَلَقِيَهُ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: هَنِيئًا لَكَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ))([2])، إذ فسَّر المولى بإمام الأمة والخليفة على النَّاس والأولى بالتصرف بشؤونهم- وانَّ هذه المعاني قد ثبتت له- بقرينة قوله: (أَنِّي أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ؟)، لينتقل في اثبات ما ثبت له بإقرارهم من الولاية عليهم لأمير المؤمنين علي (صلوات الله وسلامه عليه) مباشرة وبلا فصل بقوله: (اللَّهُمَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ) مع تكرارها أربع مرات([3])، ليجعل من تفسير هذه اللفظة (المولى) بالوجوه الأخرى ممتنعًا مع عناية توكيدية واضحة، أمَّا من جهة العنايات الأخرى الممتِّنةً لأهمية المراد الإلهي النبوي، والآخذةً بأعناق المسلمين نحوه، كجزئية توقيت التبليغ إذ أُختير عند منصرف الحاج من حجة الوداع في الثامن عشر من ذي الحجة حيث أكبر تجمع إسلامي يُتاح آنذاك، وممَّا نُقِل عن عدد من حضر الغدير((تسعون ألف، ويقال: مائة وأربعة عشر ألفًا، وقيل: مائة وعشرون ألفًا، وقيل: مائة وأربعة وعشرون ألفًا، ويقال أكثر من ذلك))([4])، مستثمرًا (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا التجمع في تبليغ أكبر عدد من المسلمين مع أمرهم بإبلاغ الشاهد الغائب، يضاف إلى أنَّ ذلك اليوم كان هاجرًا شديد القيظ لدرجة أنَّ الرجل منهم كان يضع بعض رداءه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدة حرارة الشمس وسخونة الرمال([5])، فكأنَّه قد قُصِدت مناسبة بين صعوبة طقس ذلك اليوم والحزم والشدة في تبليغ الأمر الإلهي؛ لتسهم مشقة يوم الغدير بقدر ما في التفات المسلمين لأهمية حدثه وترسيخه في نفوسهم، إذ ليس من الحكمة أنَّ يعرضهم (صلى الله عليه وآله وسلم) للتعب والمشقة بلا غاية حقيقية تعود عليهم بالنجاة، فجاء اختيار الوقت مع حالته آنذاك متناسبًا وأهمية الحدث وتأكيد حجيته على من شهده، وأمَّا المكان كان اختياره معتنىً به كذلك، إذ انتخب (صلى الله عليه وآله وسلم) غدير خُمِّ من الجحفة التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين([6])، فأمر(صلى الله عليه وآله وسلم) بردِّ من تقدَّم في المسير وانتظر من تأخر حتى إذا اجتمع الناس كلهم وأخذوا منازلهم، صلَّى بهم الظهر ثم بلَّغهم مرتقيًا على أقتاب الإبل ما أُمر به من تنصيب أمير المؤمنين خليفة له من بعده بالمقال الفصل([7])، فينتظم اختيار المكان في طول عنايات ومقاصد ذلك اليوم، ثم يختم (صلى الله عليه وآله وسلم) مراسيم الغدير بأمر جميع من شهده بتهنئة أمير المؤمنين ومبايعته عمليًا بمحضر منه، محكِمًا (صلى الله عليه وآله وسلم) عُرى تبليغه بيانًا وحُجةً، فينزل جبرائيل بعد اتمام البيعة بوحي إلهي: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(المائدة:3)، مؤيدًا إغناء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للتبليغ من جميع جهاته، وعدم تركه لمعتذر في التخلف عذرًا؛ وهذا ما أكَّدته الزهراء (صلوات الله وسلامه عليه) مفنِّدةً مقالة الأنصار بعد منعها فدك ومعاتبتها لهم على عدم النصرة، إذ قالوا: ))يا بنت محمد لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي بكر ما عدلنا بعليٍّ أحدًا، فقالت: وهل ترك أبي يوم غدير خُمٍّ لأحدٍ عذرًا))([8])، ومن مقالتهم تلك وموقفهم السابق لها قد عُطِّل الغدير وعُمِّي على شمسه بغربال المصلحة والنفاق؛ ولكنَّ أنّى لغربال بشري حجب شمس بيعة إلهية محكمة، فسيظل الغدير بالرغم من تعطيل الشانئ المعاند جذر الرسالة والمتن الأساس على صفحاتها منذ قضاه الله تعالى جسرًا فارقًا بين الفوز والخسران....
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبيه محمد وآله الطاهرين
الهوامش:
[1])) الأمالي، الشيخ الصدوق (ت: 381): 436.
[2])) فضائل الصحابة، أحمد بن حنبل (ت: 241هـ): 2/ 596.
[3])) ينظر: المصدر نفسه: 2/ 613.
[4])) الغدير: الشيخ الأميني (ت: 1392): 1/9.
[5])) ينظر: المصدر نفسه: 1/10.
[6])) المصدر نفسه: 1/10.
[7])) ينظر: المصدر نفسه: 1/10-11.
[8])) الخصال، الشيخ الصدوق (ت: 381):173.