خُطَى الخُزَاعي
في يوم سادَ الاستثناءُ أحداثَه فصيَّره وترًا في الدهر لا ثاني له (لا يومَ كيومِك يا أبا عبد الله)([1])، والحدث الاستثنائي ما كان ليكن كذلك لولا شرفية غايته وقابليات أبطاله، فكانت ملحمة عاشوراء الخالدة حدثًا متميزًا في كل الحيثيات وعلى كل الصُعُد، فالغاية قول سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه): (وأنِّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مُفسدًا ولا ظالمًا وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله)، أُريد أن آمرَ بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب (عليه السلام))([2])، أمَّا أبطال الحدث فقد فقال بحقهم مقلِّدًا إياهم أوسمة التميز: (اللهمَّ إنِّي لا أعرفُ أهلَ بيتٍ أبرَ ولا أزكى ولا أطهرَ من أهلِ بيتي، ولا أصحابًا هم خيرٌ من أصحابي)([3]).
وفي نطاق دائرة النصرة، برزت شخصية استثنائية نسوية متفردة التحقت بركب شهداء أنصار الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) وهي السيدة أُم وهب، المُتفَق على وجودها في كربلاء والمختلَف في استشهادها ومع من حضرت؟ فعلى نقل كما في (بحار الأنوار) أنَّها قد حضرت مع ابنها وهب بن وهب النصراني الذي أسلم علي يد الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) والتحق به، وكانت (رحمها الله) قد اجتهدت في تشجيعه ورفع حماسته في نيل الشهادة، فاستشهد (رضوان الله عليه) وقُطِعَ رأسَه ورُمِي إلى عسكر الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) فأخذت أمه (أُم وهب) الرأس فقبَّلته، ثم رمت بالرأس إلى عسكر ابن سعد فأصابت به رجلًا فقتلته، ثم شدَّت بعمود الفسطاط، فقتلت رجلين، فقال لها الحسين: ارجعي يا أم وهب أنت وابنك مع رسول الله، فإنَّ الجهاد مرفوع عن النساء، فرجعت وهي تقول: (إلهي لا تقطع رجائي)، فقال لها الحسين (عليه السلام): (لا يقطع الله رجاك)، والمستشِهدَة على هذا النقل زوجة وهب لا أمه([4])، ونقل آخر أنَّ أم وهب قدمت كربلاء مع زوجها عبد الله بن عمير الكلبي كما في تاريخ الطبري، إذ ترجم لها بأنَّها: أم وهب بنت عبد سيدة من النمر بن قاسط، زوجة عبد الله بن عمير الكلبي، من بني عليم([5])، المستشهد في الحملة الأولى، وهو ثاني قتيل في أنصار المولى أبي عبد الله (صلوات الله وسلامه عليه)([6])، وكان خروجه لما رأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا إلى الحسين، فسأل عنهم فقيل له: (يسرحون إلى حسين بن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))، فقال: (والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصًا، وإنِّي لأرجو ألا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثوابًا عند الله من ثوابه إياي في جهاد المشركين)، فدخل إلى امرأته (أُم وهب) فأخبرها بما سمع وأعلمها بما يريد، فقالت: (أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك، افعل وأخرجني معك)، فخرج بها ليلًا، حتى أتى الإمام فأقام معه، وبعد استئذانه للقتال، برز وأبلى البلاء الحسن إلى أن قطِعت أصابع كفه اليسرى، فأخذت أم وهب امرأته عمودًا، ثم أقبلت نحو زوجها تقول له: (فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد)، فاقبل إليها يردها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه، ثم قالت: إنِّي لن أدعك دون أن أموت معك، فناداها الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) فقال: (جزيتم من أهل بيت خيرًا، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهن، فإنَّه ليس على النساء قتال) فانصرفت، وبعد استشهاد زوجها (رضوان الله عليه) خرجت إليه حتى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب، وتقول: هنيئًا لك الجنة، فقال شمر بن ذي الجوشن (عليه اللعنة والعذاب) لغلام يسمى رستم: اضرب رأسها بالعمود فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها (رضوان الله تعالى عليها)([7]).
فشهد لها موقفها في كربلاء بالاستثنائية والتميز في نصيرات المولى أبي عبد الله (صلوات الله وسلامه عليه)، وإنَّ موقفها هذا ترجم عن أصالة اعتقاد وعمق إيمان بقضية الإمام الحسين (صوات الله وسلامه عليه) ووجوب نصرتها، حماسةً، ومناجزَةً للعدو، غير معتنية بمخاطر الحرب وغدر الأعداء، فعرّى موقفها هذا ما كانت عليه جبهة العدو من انتهاك للإنسانية وأخلاقيات الحروب من جهة، ومن جهة أخرى عن مدى اضطراب العدو وتخبطه حيال شجاعة أنصار المولى أبي عبد الله (صلوات الله وسلامه عليه) وتآزرهم وتسابقهم في النصرة، لدرجة أنَّه قد رأى في تلك المرأة المنكسرة الفاقدة عدوًا يخاف منه، فيبادرها بضربة غدر، لتلتحق بركب شهداء النصرة محققة أمنيتها حين كانت تحمس زوجها للنصرة وتطلب مرافقته: (إنِّي لن أدعك دون أن أموت معك).
فسلام عليها ما بقيت عاشوراء، وما رفع علم لكربلاء، وجزاها الله خيرًا عن كلِّ أهل الولاء.
الهوامش:
[1])) الأمالي، الشيخ الصدوق (ت: 381): 177.
[2])) بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت:1111): 44/329-330.
[3])) الأمالي، الشيخ الصدوق (ت: 381): 220.
[4])) ينظر: بحار الأنوار: 45/ 16-17.
[5])) ينظر: تاريخ الطبري، الطبري (ت: 310): 5/ 429.
[6])) ينظر: مقتل الحسين، أبو مخنف الأزدي(ت:157): 138.
[7])) ينظر: مقتل الحسين، أبو مخنف الأزدي (ت: 157): 123-124، ينظر: تاريخ الطبري: 4/ 333-334.