عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب([1])، وهو أحد الأئمة الاثني عشر ومن سادات التابعين([2])، وكان له جلالة عجيبة، وحقَّ له ذلك، فقد كان أهلاً للإمامة العظمى؛ لشرفه، وسؤدده، وعلمه، وتألهه، وكمال عقله([3])، وكان ((ثقة ثبت، عابد، فقيه، فاضل، مشهور، قال ابن عيينة عن الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل منه))([4])، وكان زين العابدين عظيم التجاوز والعفو والصفح، وقد ورث من أبيه العلم والزهد والعبادة([5]). قال عنه المناوي: ((زين العابدين، إمام، سند، اشتهرت أياديه ومكارمه، وطارت بالجوِّ في الوجود حمائمه، كان عظيم القدر، رحب الساحة والصدر، رأساً لجسم الرئاسة، مؤمّلاً للإيالة والسياسية))([6]). ((وقد ترجم له (عليه السلام) أعلام العامّة فلم يذكروه إلاّ بالسيادة والشرف، والتقى والعلم، والعبادة والفضل، والحكم والكرم، والتدبير والحكمة، وكثير منهم وصفه بالإمامة))([7]). وأما الإمّامية فقد اتفقوا ((على أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نصَّ على علي بن الحسين، وأنَّ أباه وجدّه نصّا عليه، كما نصَّ عليه الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وأنّه كان بذلك إماماً للمؤمنين))([8]). وكانت ولادته (عليه السلام) في سنة ثمان وثلاثين، وقُبض في سنة خمس وتسعين من الهجرة النبوية المباركة، وقد بلغ من العمر سبع وخمسين سنة([9])، أمّا مدة إمامته (عليه السلام) فكانت أربعاً وثلاثين عامًا، عاصر فيها بقية ملك يزيد، وملك معاوية بن يزيد، ومروان بن الحكم، وابنه عبد الملك بن مروان، واستشهد مسمومًا في ملك الوليد بن عبد الملك([10]). وقد عاصر الإمام السجاد (عليه السلام) قمّة الاستهانة بالدماء المسلمة، عبر أبشع الجرائم التي خلّفت آلاف القتلى من المسلمين، بدءاً من مذابح بسر بن أرطأة الذي أمره معاوية بن أبي سُفيان بقتل ((كلِّ من كان في طاعة علي فقتل خلقاً كثيراً))([11])، مروراً بجرائم زياد بن أبيه الذي تتبّع بأمرٍ من معاوية كلّ من والى علي (عليه السلام)([12]). ثمَّ واقعة كربلاء، التي كان (عليه السلام) حاضراً فيها بكل تفاصيلها، إذ حُوصِر الحسين (عليه السلام) مع أهل بيته، وثلة من أصحابه في كربلاء، ومُنعوا شرب الماء([13])، وقد تسابق جيش خليفة المسلمين لقتل أولاد الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فقتلوا الأطفال([14])، وحتّى النساء([15])، ولم يكتفوا بذلك إذ ذهبَّ الجيش على الخيام والحُلل والإبل فانتهبوها، وحال الناس على نساء الحسين وثقله ومتاعه، حتى صاروا ينازعون المرأة ثوبها عن ظهرها([16])، و((تسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول وقُرّة عين الزهراء البتول،... وخرجْنَ بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وحريمه يتساعدْنَ على البكاء ويندبن لفِراق الحماة والأحبَّاء))([17]). وبعد فصول الفاجعة الأليمة، جُمعت النسوة مع زين العابدين المريض وأُخذوا سبايا إلى الشام مركز الخلافة، التي كانت تنتظر موكب السبايا بشفقٍ من أجل البدء بمراسيم الاحتفال بقتل ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسبي بناته([18]).
وبعد واقعة كربلاء تحصل جريمة أخرى لا تقلُّ عنها بشاعة وهي واقعة الحرّة، وملخّصها في ذهاب وفدٍ من أبناء المهاجرين والأنصار إلى دمشق مركز الخلافة للقاء الخليفة، ولمّا حصل اللقاء رأى الوفد في سلوك يزيد بن معاوية القبيح والسيء، وبعد ذلك يرجع الوفد إلى المدينة وهناك أظهروا شتم يزيد وعيبه، ثمَّ نقضوا بيعته([19]). ولمّا بلغ يزيد الخبر أرسل إليهم مسلم بن عقبة في جيش جرار، وبعد حربٍ ضارية انتصر الجيش الشامي، ودخل المدينة. قال ابن كثير: ((أباح مسلم بن عقبة - الذي يقول فيه السلف (مسرف بن عقبة) قبّحه الله من شيخ سوءٍ ما أجهله - المدينة ثلاثة أيّامٍ كما أمره يزيد - لا جزاه الله خيراً - وقتل خلقاً من أشرافها وقرّائها، وانتهب أموالاً كثيرة منها... ووقعوا على النساء حتى قيل: إنّه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوجٍ. قال المدائني عن هشام بن حسان: ولدت ألف امرأةٍ من أهل المدينة بعد وقعة الحرّة من غير زوج. وروي عن الزهري أنه قال: كان القتلى يوم الحرّة سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي ممن لا أعرف من حرٍّ وعبد وغيرهم عشرة آلاف))([20]). ثُمَّ نُصِبَ كرسيٌ لمسلم بن عقبة، وجيء بالأسرى من أهل المدينة فكان يُؤمر كل واحدٍ منهم أن يبايع ويقول: إنّني عبدٌ مملوك ليزيد بن معاوية يتحكم فيَّ وفي دمي وفي مالي وفي أهلي ما يشاء([21])، والذي يمتنع ولا يبايع بالعبوديّة ليزيد، ويُصرّ على القول بأنّه عبدٌ لله - جلَّ وعلا - يُباشر بالقتل([22]). والأدهى من هذا قول مسلم بن عقبة: ((اللهمَّ لم أعمل عملاً قط بعد شهادة لا إله إلاّ الله، وأنَّ محمّداً عبده ورسوله أحبُّ إليَّ من قتل أهل المدينة، ولا أرجى عندي في الآخرة))([23]). بعدها توجّه مسلم بن عقبة ومن معه إلى مكة، التي ثار فيها عبد الله بن الزبير على الحكم الأموي، وفي الطريق يهلك مسلم بن عقبة، وتصير القيادة إلى حُصين بن نُمير بناءً على أوامر يزيد، وعندما وصل الحُصين أطراف مكة فرض حصاراً عليها وضرب الكعبة بالمنجنيق وأحرقها([24]) .
وهكذا عاش الإمام السجاد (عليه السلام) محنة الاستهانة بالدماء المسلمة، وكان في كلها يُجاهد من أجل إعادة الأمَّة إلى جادَّة الصواب عبر تراتيله الدعائيَّة التي كان يبتغي منها توعية الأمَّة بذنبها في خذلان الحسين (عليه السلام) لتتوب من ذلك الذنب العظيم. الذي عاد عليها بالويلات والدَّماء وتسلُّط بني أميَّة السفاكين .
الهوامش:
([1]) ينظر: وفيات الأعيان وأبناء أبناء الزمان: 2/ 127.
([2]) المصدر نفسه.
([3]) سير أعلام النبلاء: 4/ 398.
([4]) تقريب التهذيب: 2/ 35.
([5]) ينظر الصواعق المحرقة: 119.
([6]) الكواكب الدُرّية: 2/ 139.
([7]) جهاد الإمام السجاد (عليه السلام): 36.
([8]) أوائل المقالات في المذاهب المختارات: 47.
([9]) ينظر الكافي: 1/ 466، مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: 4/ 189.
([10]) ينظر بحار الأنوار: 46/ 13.
([11]) تاريخ الأمم والملوك (المعروف بتاريخ الطبري): 6/ 157 .
([12]) ينظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: 3/ 595.
([13]) ينظر مقتل الحسين ومصرع أهل بيته وأصحابه في كربلاء (المشتهر بمقتل أبي مخنف): 98.
([14]) ينظر مقتل الحسين، الخوارزمي: 2/ 32، البداية والنهاية: 8/ 188.
([15]) كأم وهب، ينظر تاريخ الأمم والملوك (المعروف بتاريخ الطبري): 5/ 429.
([16]) ينظر المصدر نفسه: 3/ 434، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: 2/ 112 .
([17]) اللهوف على قتلى الطفوف: 180.
([18]) ينظر بحار الأنوار: 45/ 127.
([19]) ينظر تاريخ الملوك والأمم (المعروف بتاريخ الطبري): 5/ 479-480 .
([20]) البداية والنهاية: 8/ 220، ينظر بحار الأنوار: 46/ 139.
([21]) ينظر مروج الذهب: 3/ 70، البداية والنهاية: 8/ 222.
([22]) ينظر: الكامل في التاريخ: 4/ 118.
([23]) تاريخ الملوك والأمم (المعروف بتاريخ الطبري): 5/ 497 .
([24]) ينظر المصدر نفسه: 5/ 498.