خُطَى الخُزَاعي
مع العهد مرة أُخرى، نفتح طيته ونتوقف عند تخوم بند تميز بسمو مختلف، أحالت وقع كلماته العين أُذنًا فراحت تبصرها؛ ولكن بصوتٍ علوي حانٍ رقيق، فتنعش توصياته (صلوات الله عليه) أرواحًا تجاذبها بؤسٌ وانتهبتها قلةُ حيلة، فتهبها سعةَ عيشٍ كريم بلا إشعار منة أو تفضل من أحد، فقال (صلوات الله عليه): ((ثُمَّ اللَّه اللَّه فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ، مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَى والزَّمْنَى، فَإِنَّ فِي هَذِه الطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْتَرّاً، واحْفَظِ لِلَّه مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّه فِيهِمْ، واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ، وقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فَإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى، وكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّه))([1]).
فالعهد الشريف قد تضمّن تصنيفًا لطبقات المجتمع الإسلامي_ وقد مرَّ معنا بعض منها_ مركِّزًا (صلوات الله عليه) في ذكره لكلِّ طبقةٍ من تلك الطبقات على مسؤولية الحاكم اتجاهها، وما ينبغي عليه فعله بإزائها، معطيًا الحاكم خطة عملٍ محكمةٍ يؤدي تنفيذها إلى ترصين علاقة متوازنة مع كلِّ طبقةٍ من هذه الطبقات، ومن ثمِّ انسحاب هذا التوازن الفرعي إلى حيث نجاح الحاكم ومقبوليته عند جمهوره المتنوع، وهنا محل الطبقة السفلى إحدى تصنيفات المجتمع التي تعدُّ من أضعف طبقاته وأقلها نشاطًا فيه، لعوارض اعترتها كالفقر والمرض أو العاهة، فهي طبقة استذلها الفقر واستضعفتها الحاجة فغدت مغمورة بائسة، يتباين أفرادها المحتاجون في التعبير عن حاجتهم، فمنهم من يعلن عن فقره وحاجته بسؤاله الناس واستعطافهم، ومنهم من يتعرض لعطاء الناس وشفقتهم بلا مسألة منه، ومنهم من لا يسأل الناس ولا يجعل نفسه بمعرض استعطاف لعفة أو مرض، فيأتي دور الدولة اتجاه هذه الطبقة من مواطنيها في العهد الشريف، فيخطُّ الأمير (صلوات الله عليه)، حكمًا ملزمًا للحاكم اتجاه هؤلاء الأفراد بتأمين احتياجاتهم، بتثبيت نصيب لهم من بيت مال المسلمين من الضرائب والصدقات، ونصيب آخر من غنائم الدولة في الأراضي التي تستولي عليها سلمًا بلا قتال، مُسوّيًا في حكمه (صلوات الله عليه) بين أفراد هذه الطبقة بين القريب والبعيد في العطاء، فحق المحتاج في بلد الغنيمة كحق المحتاج البعيد عنه، فالمعيار لديه (صلوات الله عليه) الفقر والحاجة بلا أي اعتبار آخر، والهدف القضاء على الفقر أينما وجد في بلاد المسلمين وحفظ كرامة الفرد أينما حلَّ في بلاد الإسلام، مبيِّنًا (صلوات الله عليه) أنَّ الحاكم راعٍ لكلِّ فردٍ داخل نطاق مسؤوليته ومؤتمنٌ على إيصال الحقوق إليه.
ثمَّ قال (صلوات الله عليه) مواصلًا اهتمامه بهذه الطبقة المغمورة: ((ولَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِه لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ، فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ ولَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ، وتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ، مِمَّنْ تَقْتَحِمُه الْعُيُونُ وتَحْقِرُه الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ والتَّوَاضُعِ، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالإِعْذَارِ إِلَى اللَّه يَوْمَ تَلْقَاه، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّه فِي تَأْدِيَةِ حَقِّه إِلَيْه))([2]).
مشدِّدًا على ضرورة متابعة المسؤول لأفراد هذه الطبقة؛ فحذّر من البطر والطغيان الذي يستشعره بعض المسؤولين فيحجبهم عن الناس ويشغلهم عن قضاء حوائجهم، وكذلك بيَّن (صلوات الله عليه) أنَّ الحاكم غير معذور في إهماله لأمور رعيته مهما كانت صغيرة وقليلة تحت مسوِّغ الاهتمام بأمور كثيرة وكبيرة أهم وأولى، مواصلًا (صلوات الله عليه) إحاطة هذه الطبقة بمزيد رعاية بعديد توصيات: كإدامة الاهتمام بهم وعدم قطعه عنهم تحت أي ظرف، والتعامل معهم بخلق عالٍ يحفظ كرامتهم، محذِّرًا من التكبر عليهم والتعالي عن ملاقاتهم؛ بل ذهب (صلوات الله عليه) في توصياته إلى أبعد من ذلك موجِّهًا الحكام إلى البحث عن مثل هؤلاء الأفراد الذين يتعذَّر عليه العلم بهم بلا تفقد، هؤلاء الذين وصلوا حدًّا من البؤس جعلهم منبوذين مُحتَقَرين لا يُنظر إليهم ولا يُعبأ بحالهم، مرشدًا (صلوات الله عليه) الحكام في تفقد هؤلاء الأفراد بالاعتماد على نخبةٍ سِمتها الخشية لله والتواضع للناس، فمن يخشى احتقار الناس، وليس من طبعه التواضع للفقراء لن ينجح في مثل هكذا مهمة، فجاء اختيار هاتين السمتين متناسبًا ومتطلبات المهمة، ثمَّ يأتي دور المسؤول بعد ذلك في احتواء من عثر عليه من الفقراء بواسطة معتمديه ورعايتهم على النحو الذي يعذره أمام الله تعالى يوم المساءلة، وإنَّ هذا الاهتمام الملحوظ بهذه الشريحة والتركيز عليه من بين شرائح المجتمع ليس اعتباطًا؛ بل لأنَّها من أكثر الشرائح المجتمعية ضعفًا واحتياجًا فأصبح لإنصافهم ضرورة بأولوية، على أن لا ينشغل الحاكم بهم عن أداء حقوق سائر الشرائح، فهو كما تبيَّن سلفًا مسؤول عن إيصال حق كل فرد من أفراد حكومته.
ثم بتوصية ذات صلة بما تقدَّم ذكر أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) فئة الأيتام والمتقدِّمين في العمر، فبعض من هؤلاء أيضًا من الفئات المستضعفة التي أخذت موقع الهامش في المجتمع، لقلة ذات أيديهم، وعدم تعرضهم للمسألة والطلب، مطالبًا بتعهدهم ورعايتهم، مردفًا توصياته الشريفة ببيان أنَّ مهمة المسؤول (الأعم من الحاكم أو الوالي) ليست بالأمر اليسير أو الشرفي؛ بل في حقيقتها مهمة ثقيلة تتطلب عملًا دؤوبًا وجهدًا متواصلًا، ثمَّ لمن يستعين من المسؤولين بالصبر والثقة بجزيل عطاء الله في الآجل، سيهوِّن الله عليه تلك المسؤولية وسيراها أخفَّ ممَّا يراها غيره، فقال (صلوات الله عليه):
((وتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ، مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَه ولَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَه، وذَلِكَ عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ، والْحَقُّ كُلُّه ثَقِيلٌ وقَدْ يُخَفِّفُه اللَّه عَلَى أَقْوَامٍ، طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، ووَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّه لَهُمْ))([3]).
الهوامش:
[1])) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 438-439.
[2])) المصدر نفسه: 439.
[3])) المصدر نفسه: 439.