الإمام الكاظم ترجمان القرآن

مقالات وبحوث

الإمام الكاظم ترجمان القرآن

6K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 20-03-2020

عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصَّلَاة والسَّلَام على خير خلقه مُحَمَّد وآله الطَّاهرين...
الرجوع إلى أهل البيت (D) وخصوصًا في القرآن الكريم لا يمكن النظر إليه على أنَّه ترفًا فكريًّا، أو أنَّه جزءًا من التراث قد عالج مرحلةً زمنيَّةً بحسب رؤاها ومتطلباتها التي لا يمكن أن تنسجم اليوم مع متطلباتِ مرحلتنا المعاصرة، وإنَّما يجب النظر إليه على أنَّه ضرورةٌ دينيَّةٌ وحاجةٌ معرفيَّةٌ لا يمكن تجاوزها وإنَّما يجب الاحتكام إليها في كلِّ وقتٍ وحين، وليس هذا الكلام صدىً لعاطفةٍ أو ردحًا من الارتجال؛ بل هو واجبٌ فرضُ عينٍ أمر به الرسول محمَّد (r) المسلمين في وصايا كثيرةٍ تعجُّ بها مدوناتهم ومصنفاتهم حتَّى وصلت إلى التواتر المفضي لليقين، وقد شدَّد الرسول (r) على الربط بين القرآن والعترة، وأمر بالتزامهما واتِّباعهما بقوله: ((إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي))([1])، وأخبرهم بـ ((أَنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ))([2])، ثمَّ تتكرَّر الوصية بعباراتٍ أُخرى منها قوله (r): ((إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الْآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْآخَرُ عِتْرَتِي: أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا))([3])، وفي حديثٍ صحيح يُكرِّر الوصية بالقرآن والعترة ويؤكِّد التلازم بينهما في خطبته بغدير خم([4])، وهذه الخطبة كانت في حجَّة الوداع في السنة الأخيرة من حياة رسول الله (r)، ثمَّ يصعد رسول الله (r) قبيل وفاته المنبر فيندب نفسه ويكرِّر الوصية على المسلمين بالكتاب والعترة، ويروي ذلك زيد بن أرقم فيقول: ((قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبُهُ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَتَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَخُذُوا بِهِ فَحَثَّ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي))([5])، ثمَّ يُعيد هذه الوصية في آخر خطبةٍ له وهو مريض فيقول: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، إِنَّهُ لَنْ تَعْمَى أَبْصَارُكُمْ، وَلَنْ تَضِلَّ قُلُوبُكُمْ، وَلَنْ تَزِلَّ أَقْدَامُكُمْ، وَلَنْ تَقْصُرَ أَيْدِيكُمْ، كِتَابُ اللَّهِ سَبَبٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، طَرَفُهُ بِيَدِهِ وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَاعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَأَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، أَلَا وَأَهْلُ بَيْتِي وَعِتْرَتِي، وَهُوَ الثَّقَلُ الْآخَرُ، فَلَا تَسُبُّوهُمْ فَتَهْلِكُوا))([6])، وعلة تسميتهما بالثقلين؛ ((لعظم خطرهما وجلالة قدرهما))([7]).
وقد بذل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) جهدًا واسعًا في سبيل شيوع علوم القرآن الكريم بين المسلمين في أحاديث كثيرةٍ يصعب إحصاؤها، وقد تنوَّعت جهودهم القرآنيَّة على سُبلٍ شتَّى ومعارف متنوِّعة، ومن أئمَّة أهل البيت الذين كان لهم دور في ترسيخ علوم القرآن وتنميتها الإمام الكاظم (عليه السلام)، والإمام الكاظم هو: موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأمُّه أمُّ ولد يقال لها حميدة البربرية، ويكنَّى بأبي إبراهيم وأبي الحسن وأبي علي، ويعرف بالعبد الصالح([8])، ولقِّب بالكاظم أيضًا لكظمه ما فعل الظالمون به من الظلم والتعذيب، ويعرف بين الشيعة بـباب الحوائج([9])، وقد مضى شهيدًا مسمومًا في سجن هارون العبَّاسي في الخامس والعشرين من رجب، سنة ثلاث وثمانين ومائة، وله يومئذٍ خمس وخمسون سنة.
وعلى الرغم من ابتلاء الإمام الكاظم (عليه السَّلَام) بظلم هارون وزبانته بذل جهدًا كبيرًا في توثيق الصلة بين النَّاس والقرآن الكريم، فكان يُرشد إلى معارفه وعلومه، وسنسوق بعض الأمثلة من تفسيره (عليه السلام) للقرآن الكريم بحسب ما تسمح به هذه العجالة . وممَّا ورد عنه (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[10]، قال: ((لَيْسَ يُحْيِيهَا بِالْقَطْرِ؛ ولَكِنْ يَبْعَثُ اللَّه رِجَالًا فَيُحْيُونَ الْعَدْلَ فَتُحْيَا الأَرْضُ لإِحْيَاءِ الْعَدْلِ، ولإِقَامَةُ الْحَدِّ لِلَّه أَنْفَعُ فِي الأَرْضِ مِنَ الْقَطْرِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا))([11]). وهنا يُعطي الإمام (عليه السلام) معنىً جديدًا لإحياء الأرض يختلف عمَّا هو قار بالذهن، وذلك المعنى هو إحياؤها بإقامة العدل فيها بشريعة الله تعالى، وبذلك تكون الأرض نابضة بالحياة الحقيقية التي تنقلها إلى الكمال المنشود . وممَّا ورد عنه (عليه السلام) أيضًا ما جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾[12]، عندما سأله رجل يُدعى عبد الغفار بقوله: ((أرى هاهنا خروجًا من حجب، وتدليًا إلى الأرض، وأرى محمدًا رأى ربَّه بقلبه، ونُسب إلى بصره، فكيف هذا؟ فقال أبو إبراهيم: دنى فتدلى، فإنَّه لم يزل عن موضع ولم يتدل ببدن. فقال عبد الغفار: أصفه بما وصف به نفسه حيث قال: ﴿دَنَا فَتَدَلَّى﴾ فلم يتدلَّ عن مجلسه إلَّا وقد زال عنه، ولولا ذلك لم يصف بذلك نفسه، فقال أبو إبراهيم (A): إنَّ هذه لغة في قريش، إذا أراد رجل منهم أن يقول: قد سمعت يقول: قد تدليت، وإنَّما التدلي: الفهم))([13]) . وهنا ينفي عقيدة باطلة ترسَّخت لدى بعض الفرق الإسلاميَّة وهي التجسيم، ويُثبت بطلان الفهم السطحي لهذه الآية بتفسير يعتمد على أسسٍ لغويَّة ومنطقيَّة . وفي آيةٍ أُخرى يُبيِّن الإمام الكاظم (عليه السَّلَام) فهمًا جديدًا لم يُشار إليه في عُرف المفسِّرين من خارج دائرة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو تفسيره للفاحشة في قوله تعالى: ((وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ))[14]، وذلك عندما سأله محمَّد بن منصور عن الآية المتقدِّمة فأجابه: ((هَلْ رَأَيْتَ أَحَدًا زَعَمَ أَنَّ اللَّه أَمَرَ بِالزِّنَا وشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ هَذِه الْمَحَارِمِ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: مَا هَذِه الْفَاحِشَةُ الَّتِي يَدَّعُونَ أَنَّ اللَّه أَمَرَهُمْ بِهَا؟ قُلْتُ: اللَّه أَعْلَمُ ووَلِيُّه، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا فِي أَئِمَّةِ الْجَوْرِ ادَّعَوْا أَنَّ اللَّه أَمَرَهُمْ بِالائْتِمَامِ بِقَوْمٍ لَمْ يَأْمُرْهُمُ اللَّه بِالائْتِمَامِ بِهِمْ، فَرَدَّ اللَّه ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا عَلَيْه الْكَذِبَ، وسَمَّى ذَلِكَ مِنْهُمْ فَاحِشَةً))([15]).
إلى غير ذلك من الروايات الشريفة التي كان فيها الإمام الكاظم (عليه السلام) شارحًا للقرآن ومفسِّرًا له، ومرغِّبًا به، ومن هنا علينا أن نسير في السبيل التي خطَّها الإمام الكاظم (عليه السلام) فنتَّبع المعارف التي خطَّها لنا في ذلك، وهي كنوز علميَّة من لدن أسبابٍ إلهيَّة جعلها الله تعالى أواصر يرتبط به الخلق معه تعالى، ولذلك فكلُّ ما يصدر عن أهل البيت (عليهم السَّلَام) هو الحق الذي لا محيص عنه؛ لوصيَّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) التي بدأنا بها الحديث في الثّقلين وضرورة الالتزام بهما؛ لأنَّهما العاصمان من الضلال.
الهوامش:
 [1] تفسير القمي: 2/345 ، الكشف والبيان عن تفسير القرآن: 9/186 ، التبيان في تفسير القرآن: 9/474 ، دَرْجُ الدُّرر في تَفِسيِر الآيِ والسُّوَر: 4/1587 ، التَّفْسِيرُ البَسِيْط: 21/167 ، لباب التأويل في معاني التنزيل: 4/228 ، عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ: 1/282 ، التفسير الصافي: 5/110، تفسير نور الثقلين: 5/193 ، تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب: 12/575 ، الميزان في تفسير القرآن: 1/12 .
 [2] مجمع البيان في تفسير القرآن: 7/267 ، تفسير جوامع الجوامع: 1/411، تفسير القرآن العظيم: 7/201 ، زبدة التفاسير: 2/90 ، البرهان في تفسير القرآن: 1/20، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: 11/368، الأساس في التفسير: 9/5101 ، تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب: 4/399.
 [3]لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/4، تفسير القرآن العظيم: 7/203، الدر المنثور في التفسير بالمأثور: 7/349 ، البرهان في تفسير القرآن: 1/23 – 24، موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور: 1/444، تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن: 1/21، الأساس في التفسير: 9/5102.
 [4]ينظر: تفسير القرآن العظيم: 7/201، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: 11/368، الأساس في التفسير: 9/5101، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج: 25/58، التفسير الوسيط للقرآن الكريم: 9/1218.
 [5]معالم التنزيل في تفسير القرآن - تفسير البغوي: 2/76 ، تفسير القرآن العظيم: 6/415 ، اللباب في علوم الكتاب: 5/426، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: 11/196، محاسن التأويل: 8/68، توفيق الرحمن في دروس القرآن: 3/499 – 500، التفسير الحديث مرتب حسب ترتيب النزول: 9/186 ، اللباب في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب: 5، تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن: 1/20، الأساس في التفسير: 8/4438 .
[6] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: 1/36، البحر المحيط في التفسير: 1/24.
[7] إعراب القرآن وبيانه: 9/407.
 [8]ينظر: الإرشاد: 2/215 - 216.
 [9]ينظر: أعلام الورى: 2/6.
[10] الحديد: 17.
 [11]الكافي: 7/174، تهذيب الأحكام: 10/146، التفسير الصافي: 4/129، البرهان في تفسير القرآن: 5/288.
[12] النجم: 8 – 9.
[13]  الاحتجاج: 2/157، التفسير الصافي: 5/87، بحار الأنوار 3/313، تفسير نور الثقلين: 5/151، تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب: 12/480.
[14] الأعراف: 28.
 [15]  الكافي: 1/373، البرهان في تفسير القرآن: 2/526، التفسير الأصفى: 1/366، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: 4/197، تفسير نور الثقلين: 2/17، تفسير كنز الدقائق وبحر العجائب: 65.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2799 Seconds