بقلم: م. م. وئام علي القره غولي
الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ولا ينبغي الحمد إلا له، والصلاة والسلام على المحمود الصادق الأمين المنتجب المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين الهداة المهديين.
وبعد:
تعدُّ الجرائم الماسّة بأمنِ المُجتمع الاقتصادي واستقراره مِن الجرائمِ ذات الأثر في تدهورِ اقتصاد الدّولة واضمحلاله، وقد عملَ أمير المؤمنين (عليه السلام) على مواجهةِ هذهِ الجرائم من خلالِ تطبيق الحُدود على مُرتكبيها، والتي كانَ لها أثرٌ في تحقيقِ الأمن والاستقرار الاقتصادي في الدّولة، لذا سوف نَتناولُ في هذا المَطلب أثر تطبيق حدّ السرقة، ومِن ثمّ أثر تطبيق حد الخمر.
ثانيًا: أثر تطبيق حد الخمر
ذكرنا أنّ الشريعة حرمت الخمر تحريما قاطعا، وذلك لكونهِ مَفسدة للعقلِ ومَضيعة للمال، ولا يقع ضرره عند هذا الحد وحسب بل قد يسوق بصاحبهِ إلى الاعتداء والظّلم على الآخرين[1] فقد روى محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين قال: ((قيلَ لأمير المؤمنين (عليه السلام): إنّك تزعم أن شرب الخمر أشد مِن الزّنا والسّرقة؟ قالَ: نعم إن صاحب الزّنا لعلّه لا يعدوه إلى غيره، وإن شارب الخمر إذا شربَ الخمر زَنى وسرق وقتل النفس التي حرم الله وترك الصلاة))[2].
وما يتضحُ مِن النّص آنفًا أنّ الآثار السلبية لشربِ الخمر، تتنوع إذ ((أنّها تتعدى الفرد لتصبحَ جريمة اجتماعية بحقّ الآخرين، لأن شرب الخمر يعرض للخطرِ، الأخلاق الشخصية، وأموال الناس وإعراضهم، وأرواحهم، كما أنّه يُعرّضُ علاقة الإنسان بربهِ إلى أشد الأخطار، ويدعوه إلى قطعِها، وإلى التمردِ عليه سبحانه))[3].
ولم يكتفِ الإمامُ علي (عليه السلام) بهذهِ المُعالجة الظاهرية من خلالِ تصريحه بخطورةِ شرب الخمر والتحذير منه، بل عمل (عليه السلام) على مُعالجةِ هذه الجّريمة عن طريقِ تنفيذ عقوبة الحد على من ارتكبها، إذ يقول (عليه السلام) وهو على منبر الكوفة: ((مَن شرب شربة خمر فاجلدوه فإن عادَ فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه))[4]، وقد بَيّن الإمام علي (عليه السلام) مُقدار هذه العقوبة بقوله: ((إنّ الشارب إذا شربَ لم يدرِ ما يأكلُ ولا ما يصنعُ، فاجلدوه ثمانين جلدة))[5].
وإنّ هذا الحزم والشّدة في العقوبةِ هو لتحقيقِ الزّجر والرّدع للجّاني لمنعهِ مِن العودة إلى جريمتهِ، ليصلحَ بذلك شأنه وحاله، وإذا نظرنا إلى شرب الخمر نجد أن آثاره لا تقتصر على الفرد، وإنّما أضرارها تمسُّ المُجتمع بأسرهِ، ومِن الشّواهد على ذلك هو ما روي عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: ((قضى أميرُ المؤمنين (عليه السلام) في أربعةٍ شربوا خمرا فسكروا فأخذَ بعضهم على بعض بالسلاح فاقتتلوا، فقتلَ إثنان وجرح إثنان، فأمر بالمجروحين فضربَ كل واحد منهما ثمانيين جلدة، وقضى بديّة المقتولين على المجروحين، وأمر أن يقاس جراحة المجروحين فترفع من الدية، فإن مات أحد المجروحين، فليس على أحد من أولياء المقتولين شيء))[6].
ومما تقدّمَ يتضحُ أن شُرب الخمر لا يقتصرُ خطره على الضررِ النّفسي للمُجرم، بل تعدى إلى غيرهِ وقد أزهق أرواحا، إضافة إلى ذلك فإنّه شكلَ مخاطر اقتصادية تشكل عبئا على المُجتمع، فالّذي قتل قد غرم الديّة وهذا يعودُ بالضررِ الاقتصادي عليه وعلى أسرتِه، وإضافة إلى ذلك تلقيهِ الضّرر الجّسدي والنّفسي نتيجة إقامة الحد، ولا يقتصرُ الضّرر على ما ذكرته لنا الرّواية، إذ إن هُناك إضرارًا أخرى لا تقلُّ أهمية عما ذكر، فإن في إشاعةِ شُرب الخمر تدمير لاقتصادِ الدّولة فهو احد الأسباب المهمة في انتشارِ الفقر والبؤس والإفلاس بينَ أفراد المُجتمع، فضلًا عن ذلك فأنّ له دورٌ كبير في إهدارِ الوقت، فشارب الخمر يصبحُ فردا غير فعّالٍ في المُجتمع نتيجة ذهاب عقله، فيقلُّ إنتاجه وعمله وهذا يعودُ بالضّررِ الاقتصادي عليه وعلى الدّولة، فلو كان شاربُ الخمر يحسبُ لحظات غفلته عن عمومهِ أثناء السّكر فائدة له، فإنّ الأضرار التي تترتب عليه أكثر بكثير وأوسع دائرة وأبعد مدى من فوائدِها حتى لا يمكن المُقارنة بينَ الاثنين[7].
وفي ظِلّ هذهِ المَخاطر التي يُسببها الخمر نجدُ أنّ أميرَ المؤمنين(عليه السلام) كان حازما شديدا في تنفيذِ الحدّ على مَن شربَ الخمر، والشواهد على ذلك كثيرة منها ما روي عن ابن شهر آشوب قال: ((بلغَ معاوية أنّ النّجاشي هجاه، فدسّ إليه قومًا شهدوا عليه عند أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه شرب الخمر، فأخذه علي فحدّه، فغضبَ جماعة على علي (عليه السلام) في ذلك، منهم طارق بن عبد الله النهدي، فقال: يا أمير المؤمنين ما كُنّا نرى أنّ أهل المَعصية والطّاعة وأهل الفُرقة والجّماعة عند ولاة العَقل ومعادِن الفضل سيّان في الجزاءِ حتى ما كانَ من صنيعِك بأخي الحارث ـ يعني النجاشي ـ فأوغرت صدورنا وشتت أُمورنا وحملتنا على الجادةِ التي كُنّا نرى أنّ سبيل من ركبها النار، فقالَ عليٌ (عليه السلام): إنّها لكبيرة إلاّ على الخاشعين، يا أخا بني نهد هل هو إلاّ رجل من المُسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حدّها زكاة له وتطهيرًا، يا أخا بني نهد إنّه مَن أتى حدًّا فأقيم كان كفارته، يا أخا بني نهد إنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه العظيم (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْم عَلى أَنْ لاَ تَعْدِلُواْ اِعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[8]، فخرج طارق والنجاشي معه إلى معاوية، ويقال إنه رجع))[9]
وما يظهرُ من النّص أنّ الإمام علي (عليه السلام) قد أقامَ حد الخمر على النجاشي مع كونه من أشرافِ شيعته (عليه السلام) وممن هجا معاوية لأجله (عليه السلام) لكن لما قامَ عليهِ الشّهود بشربِ الخمر أقامَ (عليه السلام) عليهِ الحدّ وبذلك جسّد (عليه السلام) العدالة والمُساواة أمام القانون[10]، والذي يتضحُ أن هذا التّجسيد للعدالةِ والمساواة في العقوبةِ هو الذي يعطي للحدود أثرها، لأن استثناء واحد كفيل بهدمِ جميع الآثار التي تحققها العقوبة، وإن هذا الحزم في التنفيذِ يعودُ أثره بالدرجة الأولى على الفردِ فعند تطبيق الحدّ عليه الذي هو ثمانونَ جلدة تكون الشريعة بذلك قد عالَجت الدّوافع النّفسية التي تدعو للجريمةِ بالدّوافع النفسية المُضادة التي تصرف بطبيعتها عن الجريمةِ، التي لا يمكن أن يقومَ غيرها من الدوافعِ النّفسية مقامها، فإذا ما فكر الشّخص في شربِ الخَمر لينسى آلام نفسه ذكر مع الخمر العقوبة التي ترده إلى آلام النفس والبدن[11].
ولم تقتصرْ مُحاربة الإمام علي (عليه السلام) لهذهِ الرّذيلة بتطبيقِ الحدّ على شارب الخمر وحسب بل عمل (عليه السلام) على إبادةِ كلّ ما يؤدي إلى شيوعِ هذه المَفسدة، فقد ذكر أنّه (عليه السلام) حين جاء إلى الكوفة بَدل معامل الخمر والحانات إلى مَعامل إنتاج للموادِ الغذائية الصّالحة ومَحلات تجاريّة لبيعِ الحاجيات اليومية وما أشبه[12].
ومن مُجمل ما تقدّم يتضحُ أن عقوبة الحدّ لا يقتصر أثرها على الفردِ الشّارب للخمرِ بتحقيقِ الرّدع والزّجر له، بل يعود بالدرجة الكبرى أثرها على المُجتمع فعندما طبقَ أمير المؤمنين (عليه السلام) الحدّ على مُذنب واحد، فإنّه يكون بذلك قد حققَ للمُجتمع الأمن والسّكينة، وللعقلِ الحماية والتّحصين، وللاقتصاد التّنمية والاستقرار.[13].
الهوامش:
[1] ينظر: فقه العقوبات في الشريعة الإسلامية: محمد شلال العاني، عيسى العمري، 1/ 213.
[2] وسائل الشيعة: الحر العاملي، 25/316- الكافي: الكليني، 6/404- كنز العمال: المتقي الهندي، 5/486.
[3] الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام): العاملي، 25/ 227.
[4] وسائل الشيعة: الحر العاملي، 18/478- جامع أحاديث الشيعة: البروجردي، 25/517.
[5] بحار الأنوار: المجلسي، 76/157.
[6] وسائل الشيعة: الحر العاملي، 19/174.
[7] ينظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيرازي، 2/117- الحرية بين الدين والدولة: الصفار، ص 169.
[8] سورة المائدة: الآية 8.
[9] مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب، 1/ 408.
[10] ينظر: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة: المنتظري، 2/190.
[11] ينظر: التشريع الجنائي الإسلامي: عبد القادر عودة، 1/650.
[12] ينظر: القانون: محمد الحسيني الشيرازي، مركز الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ط2، 1419هـ، ص 77.
([13]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الفقه الجنائي في قضاء الإمام علي عليه السلام وأثره في بناء الدولة الإسلامية، الدكتورة ناهدة الغالبي، الباحثة وئام القره غولي، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 235-239.