التصدق بالخاتم، إبداع في الطاعة

مقالات وبحوث

التصدق بالخاتم، إبداع في الطاعة

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 04-08-2021

خُطَى الخُزَاعي

عند عتبات مجده تتزاحم المناقب متنافسة علّها تنسب إليه، فإذا ما قيل عن منقبة ما أنَّها علوية يعني أنَّها قد بلغت سقف كمالها الأعلى وحدَّ تمامها الأبعد؛ فما أن تسخو نفسه المقدسة بمكرمة ما إلّا ويقع الفعل منه إبداعي متفرد، فله مع الإبداع الإمكاني قرن أكيد، من الديباجة حيث عناية مبدعة من رحم كعبة إلى حيث ختام مبدع كافئ به تلك العناية فعلًا جمع فيه كل قربة عند محراب، والبين تفاصيل لم نرَ لها مع غيره نسخة ذات شبه.
وعند النسخة العلوية المبدعة في الصدقة نجد حكاية قرآنية توثق الفعل وتُجَزّي مُبدعه ولاية على كل من دان بالقرآن حجة، وبناقله عن الوحي رسولًا، فقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة:55).
وعند تفسير العياشي (ت: 320) في سبب نزول هذه الآية عن عمار بن ياسر: ((وقف لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) سائل وهو راكع في صلاة تطوع، فنزع خاتمه فأعطاه السائل فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأعلمه بذلك، فنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية: {إنَّما وليُكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} إلى آخر الآية فقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله) علينا، ثم قال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ مَن والاه، وعادِ من عاداه)) ([1]).

وقد نقل الصدوق (ت: 381ه) الحدث بتفصيل أكثر في أماليه فقال: ((عن كثير بن عياش، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، في قول الله (عزَّ وجلَّ): {إنَّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا...} الآية، قال: إنَّ رهطًا من اليهود أسلموا، منهم: عبد الله بن سلام، وأسد، وثعلبة، وابن يامين، وابن صوريا، فأتوا النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا نبي الله، إنَّ موسى (عليه السلام) أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيك يا رسول الله؟ ومن ولينا بعدك؟ فنزلت هذه الآية: {إنَّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قوموا، فقاموا فأتوا المسجد، فإذا سائل خارج، فقال: يا سائل، أما أعطاك أحد شيئًا؟ قال: نعم. هذا الخاتم، قال: من أعطاك؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلي، قال: على أي حال أعطاك؟ قال: كان راكعًا، فكبَّر النبي (صلى الله عليه وآله) وكبَّر أهل المسجد، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): علي بن أبي طالب وليكم بعدي، قالوا: رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وبعلي بن أبي طالب وليًّا، فأنزل الله (عزَّ وجلَّ): {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإنَّ حزب الله هم الغالبون}))([2]).

فكان هذا الفعل منه (صلوات الله عليه) إبداع في تقديم الطاعة لله تعالى بلا سبق من أحد؛ ليكون من مختصاته (صلوات الله عليه) الإتيان بالقربات على نحو مختلف لا يهتدي إليه من سواه، وهذا يضيء على أكملية في شأنه التعبدي، المنضمة إلى أكمليته في سائر الشؤون.
وقد أثبت أنَّه الفرد الحصري المعني بقول الحق {والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}، تثبت ولايته على الأُمة عطفًا على ولاية الله ورسوله ووقوعًا في طولهما.

أمَّا الخاتم الذي وهبه (صلوات الله عليه) في سبيل الله كان يعدُّ ثروة على وفق المقياس المادي، إلا إنَّه (صلوات الله عليه) لم يرَ له اعتبار في طاعة الله، فمن كان  ديدنه الجود بالنفس في كل موطن تضحية يسهل عليه الجود بما دونها، ((عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنَّ الخاتم الذي تصدَّق به أمير المؤمنين (عليه السلام) وزن أربعة مثاقيل، حلقته من فضة، وفصه خمسة مثاقيل، وهو من ياقوتة حمراء، وثمنه خراج الشام، وخراج الشام ثلاثمائة حمل من فضة وأربعة أحمال من ذهب، وكان الخاتم لمران بن طوق قتله أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخذ الخاتم من أصبعه، وأتى به إلى النبي (صلى الله عليه وآله) من جملة الغنائم، وأمره النبي (صلى الله عليه وآله) أن يأخذ الخاتم، فأخذ الخاتم وأقبل وهو في أصبعه وتصدق به على السائل في أثناء صلاته)) ([3]).

وبتوثيق فعل أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) قرآنًا محفوظًا يُتلى لهو كاشف عن خلوص في النية من أعظم ما يكون، والعمل إنَّما يزكى على أساس محرك العامل تجاه العمل ودوافعه من الإتيان به، فخلَّصه القرآن بهذا التوثيق من أن يشوبه شائبة تقدح في خلوصه المحض لله تعالى، مسقطًا ترهات المشككين، وشبهات المغلطين.

ومع فاصلة خلوص النية في العمل نترك الكلام لمن أراد أن يحوز فضلًا كأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بتكرار الفعل نفسه في الظاهر، ولكن؛ أنى ذلك والله تعالى لا يخدع في طاعته، فقال: ((والله لقد تصدقت بأربعين خاتمًا وأنا راكع، لينزل فيَّ ما نزل في علي بن أبي طالب (عليه السلام) فما نزل)) ([4]).

وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين.

الهوامش:
[1])) تفسير العياشي: 1/327.
[2])) الأمالي، الشيخ الصدوق: 186.
[3])) غاية المرام وحجة الخصام في تعيين الإمام من طريق الخاص والعام، السيد هاشم البحراني (ت: 1107): 2/22.
[4])) الأمالي، الشيخ الصدوق: 186.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2783 Seconds