من ألفاظ البيع والشراء في نهج البلاغة: 9- الربح

مقالات وبحوث

من ألفاظ البيع والشراء في نهج البلاغة: 9- الربح

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 19-07-2022

بقلم: الدكتورة سحر ناجي المشهدي

الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..

وبعد:

تكرر هذا اللفظ في أحد عشر موضعا، وجاء الربح في النَّهْج للدَلالة على مَعْنَييِن هما:

1) الرِّبح الحقيقي (المادي): لم يستعمل الإمام (عليه السلام) هذا المعنى في الرِّبح، وإنَّما كان تأكيده في جميع خطبه الرِّبح المجازي بوصفه الرِّبح الخالد للإنسان.

2) الرّبح المجازي:  هذا النوع من الربح هو ما أكده الإمام (عليه السلام)  فكان اهتمامه بالرّبح المجازي،  فجاء الفعل الماضي منه على زنة (فَعِلَ) في قوله (عليه السلام): « مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ،  وَمَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ»[1]،  فالفواصل (رَبِح،  خَسِر)  كلاهما جاء على زنة (فَعِلَ)،  وقد قابل بين (حاسَبَ،  ربح)  وبين (غفل،  خسِر)  ؛ ليؤكد أنَّ الرابح المحاسب لنفسه،  والخاسر الغافل.

جاء الماضي منه مبنيا على الضم مسندا إلى واو الجماعة (رَبِحُوا)  في مدحه للدنيا قائلا: «إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْق لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ عَافِيَة لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنىً لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا،  وَدَارُ مَوْعِظَة لِمَنْ اتَّعَظَ بِهَا، مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللهِ، وَمُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اللهِ، وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللهِ، اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ، وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ»[2].

فرِبحُ الجَنّةِ ربحٌ معنوي، وقد أكَدَّ الإمام (عليه السلام) ذلك، فجاء الفعل (رَبِح َ) متعديا، إذ نَصَبَ (الجّنَة) مفعولاً به لـ(رَبِحَ) والأصل: رَبِحُوا الجَنّة فيها، فكان التقديم بشبه الجملة جوازا؛ والغرض منه التوكيد.  وبأن الربح فيها لا في غيرها،  ويقال رَبِحَ فُلان رِبْحَا،  إذا كَسَب،  وهي الزّيادة الحاصلة على رأس المال، واستعمله الإمام  ليدلّ على الكَسب والنَّـماء،  قال (عليه السلام):  «لاَ مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ،  وَلاَ وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ،  وَلاَ عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ،  وَلاَ كَرَمَ كَالتَّقْوَى،  وَلاَ قَرِينَ كَحُسْنِ الْخُلْقِ،  وَلاَ مِيرَاثَ كَالاْدَبِ، وَلاَ قَائِدَ كَالتَّوْفِيقِ،  وَلاَ تِجَارَةَ كَالْعَمَلِ الصَّالِحِ،  وَلاَ رِبْحَ كَالثَّوَابِ»[3] .

فالعمل الصالح ربحه الثواب، وسبق ربح بـ(لا) النافية الزائدة، لأنّ الكلام منفي في بدايته بـ(لا) النافية للجنس والنفي بها مُؤَكدا، فجاءت زيادتها مع الرِّبح، لغرض التأكيد.  وجاء اسم الفاعل من (رَبِحَ)  مُعَرّفَاً بـ(أل)،  ومعنى رَابِح:  هو ذو ربح،  وقيل بمعنى مفعول:  أي مَربُوح فيه، وهي الصّيغة الأكثر استعمالا لهذه المادة،  ومن كلامه (عليه السلام): « وَاعْلَمُوا أَنَّمَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا وَزَادَ في الاْخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الاْخِرَةِ وَزَادَ فِي الدُّنْيَا:  فَكَمْ مِنْ مَنْقُوص رَابح وَمَزِيد خَاسِر!»[4].

فـ(كم) خبرية، ومحلها الرّفع بالابتداء، ورابح: خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو رَابِح، والجملة خبر(كم)، ومثله خَاسِر.  والمعنى كم من منقوص في الدنيا هو رابح في الاخرة،  ومن مزيد في الدنيا هو خاسر في الاخرة،  فما يزاد للآخرة باق دائم وما يزاد للدُّنيا زائل[5].

وجاءت صيغة اسم المفعول (مُربِحَة)  مسندة إلى المؤنث،  يقال من باب المجاز(تجارةٌ رابحةُ)  وقد ربحت تجارتك[6].

و منه قوله (عليه السلام)   في خطبة له يصف المتقين «صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً،  تِجَارَةٌ مَرْبِحَةٌ،  يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُم»[7].

والتّجارة المُربِحَة التي تحرز الرِّبح،  والمراد هنا أنّ (التجارة الرابحة)  هي الأعمال الصالحة وما يتعلق بها[8].

فالرّبح لإيراد منه الزيادة على رأس المال، وإنّما المرادُ به تحقيق المعنى المجازي، الإثابة وصالح الاعمال.  فالإمام (عليه السلام) لم يستعمل الربح للشيء المادي، وإنّما استعمله للشيء المجازي؛ لأنّ الرّبح المادي زائل بالتأكيد، أمّا الربح الحقيقي فهو الباقي.

  تقول العرب: « رَبِحَت تِجارتُه اذا رَبحَ صاحبُها فيها» [9].  ومنه قولـــه تعالى: ﴿أولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾[10].
والرِّبح والرَّبح والرِّباح:  النَّماء في التجارة[11].
 وعرَّفه الرَّاغب بقوله: « الزِّيادةُ الحاصلةُ في المُبَايعة،  ثمَّ يُتَّجَوز به في كلِّ ما يعود من ثمرةِ عملٍ،  ويُنسَبُ الرِّبحُ تارةً الى صاحبِ السِّلعةِ،  وتارةٌ الى السِّلعة نفسها»[12])[13].

الهوامش:
[1] نهج البلاغة: الحكم القصار:  208،  381.
[2] الحكم القصار: 131، 373.
[3] الحكم القصار: 113، 369.
[4] نهج البلاغة: خ 114، 120.
[5] ظ: في ظلال نهج البلاغة: 2 / 519 وظ:  منهاج البراعة:  8 / 54.
[6] ظ:  أساس البلاغة:  1 / 328.
[7] نهج البلاغة:  خ 193،  221.
[8] ظ:  في ظلال نهج البلاغة:  4 / 190.
[9] ظ:  العين (مادة ربح):  3 / 217.
[10] البقرة / 16.
[11] ظ:  لسان العرب (مادة ربح):  3 / 1553.
[12] المفردات في غريب القران:  388.
[13]لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 89-93.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2775 Seconds