بقلم: الباحثة زهراء حسين جعفر
الحمدُ لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وسببا للمزيد من فضله، ودليلا على آلائه وعظمته، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالضياء، وقدمه في الاصطفاء، وجعله خاتم الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
ورد حديث أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: ((لَا يُجْهَز عَلَى جَرِيحهم))[1]. ذكر ابن منظور: ((جَهَزَ عَلَى الْجَرِيحِ وأَجْهَزَ: أَثْبَت قَتْله....وأَجْهَزْتُ عَلَى الْجَرِيحِ إِذا أَسرعت قَتْلَهُ وَقَدْ تَمَّمت عَلَيْهِ...، وَمَوْتٌ مُجْهِز وجَهِيز أَي سَرِيعٌ ))[2].
ومعنى الحديث يتضح من قول ابن الأثير انَّ مَن صُرِع مِنْهُم وكُفِي قِتاله فلَا يُقْتَل والقصْد مِنْ قتالِهم دَفْع شَرِّهِم[3]، فـ(لا) النافية غيرت معنى المفردة، وجعلتها في الضد من المعنى الأول لها، فهي تنفي حدوث الفعل الواقع بعدها فصيغة الطلب أكسبت المفردة معنىً آخر ينسجم مع أخلاق المسلمين في الحرب.
وفي موضع آخر أمر بصيغة النهي في قوله (عليه السلام): ((لَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَلَا تُصِيبُوا مُعْوِراً)) [4]. يقال: ((أَجْهَزْتُ عَلَى الْجَريحِ إِذَا أَسْرَعتُ قَتْلَهُ، وَمِنهُ قِيلَ: فَرَسٌ جَهيزٌ، إِذَا كَانَ سَرِيعُ الشَّدِّ)) [5].تتجلى في نص الحديث وظيفة أخلاقية، تتمثل في الالتزام بكل القیم والأخلاق الحميدة التي أمر الإسلام بها، حتى مع ألد الأعداء، حیث یوصي الإمام أصحابه بأن لا یقتلوا جريحا، ولا یصیبوا معورا وقد أمر الإمام علي(عليه السلام) بعدم قتل جَرِيحِ الاعداءِ في حرب الجمل[6]؛ لأنَّه يعترف بوجود الله (جل جلاله)، إنما بغضه وحقده على الإمام علي (عليه السلام) دفعه للقتال. وربما سؤال يتبادر الى الذهن لماذا لم يفعل أمير المؤمنين (عليه السلام) مع اصحاب الجمل وفعل مع اهل صفين؟ ويمكن بيان سبب ذلك ان من كانت له فئة يرجع اليها عندها يجهز على جريحم، وهكذا فعل مع اهل صفين، لأنهم كانوا يرجعون الى معاوية، أمّا اصحاب الجمل فلم يفعل معهم ذلك؛ لأنه لم تكن لهم فئة يرجعون اليها ولأن اميرهم قد صُرِعَ ((ورؤوس الفتنة قد قُتِلوُا، وهُزِمَ النّاس))[7].
وفي مستدرك الوسائل ذكرت ثلاث روايات منها الثالثة: عن أبي بصير عن أبي عبدالله ( عليه السلام )أنَّه قال: ((لمّا التقى أمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل البصرة، نشر الراية - راية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) - فتزلزلت أقدامهم، فما اصفرّت الشمس حتى قالوا: امنّا ياابن أبي طالب، فعند ذلك قال: لا تقتلوا الأُسراء، ولا تجهزوا على جريح))[8].
وذكر المجلسي عن عبد الله بن شرِكٍ عن أبيه قَالَ: (( لَمَّا هُزِمَ النَّاسُ يَوْمَ الْجَمَلِ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): لَا تَتْبَعُوا مُوَلِّياً،وَلَا تُجِيزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ...))[9] قوله (عليه السلام): و(لا تجيزوا) يقال: أجزت على الجريح أي أجهزت عليه و أثبت قتله و أسرعته و تممت عليه[10]، وأَجَزْتُ على الجريح، لغةٌ فِي أَجهَزتُ[11]، وأنكرهُ السرقسطي[12]،والجوهري[13]، وابن سِيده[14] فقَالوا: ولَا يُقَال أجازَ عَليه، إنّما يُقَال أجازَ على اسمِه، أَي ضَرَبَ، ولما كان يوم صفين قتل المقبل منهم والمدبر وأجاز على الجريح؛لأن معاوية كان قائما بعينه وكان قائدهم.
إذا تأملنا ونظرنا إلى فضائله وسيرته (عليه السلام) فنجد الكرم والرحمة حتى مع مخالفيه واجتنابه اهراق الدماء، وإثارة نار الحرب وهو مع قدرته وصولته لا يبسط يدا ولا يلفظ بكلمة كيلا تنشب نار الحرب بين المسلمين، وصبر على مضض الألم حتى انفصل حبل البيعة والوفاء بأيديهم ورُميَ سهم البغي من أوتارهم، فعند ذلك أجاز الإمام (عليه السلام) الركوب إليهم، وبعد ما غلب وانهزم القوم أمر بأن لا يجهز على جريح ولا يتبع مدبر.وفي موضع قال (عليه السلام): ((لا تجيزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبرا))[15]، والمراد من الحديث ان لايجهز عليه، أي: لا يسرع قتله. أراد الإمام (عليه السلام) بذلك تطبيق القيم والمفاهيم الاسلامية حتى في الحرب)[16].
الهوامش:
[1] النهاية في غريب الحديث والأثر: 1/322.
[2] ( لسان العرب: (جهز) 5/325، و ينظر: مقاييس اللغة: (جهز)1/488.
[3] ينظر: لسان العرب: (جهز) 1/322.
[4] النهاية في غريب الحديث والأثر: 3/319، ولفظ (المعور) من (عور): قبيح السريرة. (جمهرة اللغة: (عور)2/775.)، وَالْمُعْوِر: هُوَ الْبَادِيَ الْعَوْرَةِ ويقال الأَعْوَرُ: الضَّعِيفُ الْجَبَانُ البَلِيد الَّذِي لَا يَدُلّ وَلَا خَيْرَ فِيهِ. ينظر: الدلائل في غريب الحديث: 3/1103، وغريب الحديث: الخطابي: 1/235، والنهاية في غريب الحديث والأثر: 2/318-319، وغريب الحديث في بحار الأنوار: 1/279.
[5] الدلائل في غريب الحديث: 2/909-910، وينظر: الصحاح تاج اللغة: (جهز)3/870.
[6] ينظر: أبنية المشتقات في نهج البلاغة دراسة تحليلية: ميثاق علي عبد الزهرة: 34(رسالة ماجستير).
[7] ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: تح،السيدمهدي الرجائي: 9/413.
[8] مستدرك الوسائل، تح حسين النوري: 11/53.
[9] ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: تح،السيدمهدي الرجائي: 9/ 413.
[10] ينظر: م. ن. 9/ 413،.
[11] ينظر: الفائق في غريب الحديث: 2/50، وتاج العروس: (جهز)15/88.
[12] ينظر: الدلائل في غريب الحديث: 2/909-910.
[13] ينظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: (جهز)3/870.
[14] ينظر: المحكم والمحيط الاعظم: (ج ه ز)4/151.
[15] الأمالي: الشيخ المفيد: 1/59.
[16] مزيد من الاطلاع ينظر: كلام الإمام علي عليه السلام في كتب غريب الحديث/ دراسة في ضوء نظرية الحقول الدلالية، تأليف زهراء حسين جعفر، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 97-100.