مناقشة أقوال الراغب الأصفهاني وتأويله للإرث في آية {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} ومعارضتها للقرآن والسُنَّة وبيان ظلامة فاطمة عليها السلام. أولاً: قوله: (إنّ المال لا قدر له عند الأنبياء (عليهم السلام) حتى يتنافسوا فيه).

مقالات وبحوث

مناقشة أقوال الراغب الأصفهاني وتأويله للإرث في آية {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} ومعارضتها للقرآن والسُنَّة وبيان ظلامة فاطمة عليها السلام. أولاً: قوله: (إنّ المال لا قدر له عند الأنبياء (عليهم السلام) حتى يتنافسوا فيه).

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 22-12-2022

بقلم: السيد نبيل الحسني

تناول الراغب الأصفهاني (ت 425هـ) مفردة (الإرث) في القرآن وحاول صرفها عن مقصدها الشرعي في قوله تعالى:
{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} وذلك في مظهر جديد من مظاهر تضافر الأمة على هضم بضعة النبوة وصفوة الرسالة (صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها)، فقال:
(ورث: الوارثة والإرث، انتقال قنية[1] إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد، وسمى بذلك المنتقل عن الميت، فيقال: للقنية الموروثة ميراث وإرث.
وتراث، أصله وراث، فقلبت الواو ألفا، والتاء؛ قال:
{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} [سورة الفجر/19] .

وقال [صلى الله عليه وآله وسلم]:
«أثبتوا على مشاعركم فإنكم على إرث أبيكم» أي أصله وبقيته.
قال الشاعر: ط فيهن إرث كتاب محى               فينظر في صحف كالربــا

ويقال ورثت مالا عن زيد، وورثت زيدا، قال: {وَوَرِثَ سُلَيْـمَانُ دَاوُودَ} - {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} - {وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} ويقال: أورثني الميت كذا، وقال: (وإن كان رجل يورِّث كلالة)، وأورثني الله كذا، قال: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} - {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ} - {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ} - {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ}، الآية، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} ويقال: لكل من حصل له شيء من غير تعب قد ورث كذا، ويقال: لمن خول شيئا مهنئا أورث، قال تعالى:
{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} - {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ..} وقوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} فإنه يعني وراثة النبوة والعلم والفضيلة دون المال، فالمال لا قدر له عند الأنبياء حتى يتنافسوا فيه، بل قلما يقتنون المال ويملكونه؛ ألا ترى أنه [صلى الله عليه وآله] قال:
«إنا معاشر الأنبياء لا نورِّث، ما تركناه صدقة».
نصب على الاختصاص، فقد قيل: وما تركناه هو العلم، وهو صدقة تشترك فيها الأمة، وما روي عنه [صلى الله عليه وآله] من قوله: «العلماء ورثة الأنبياء».

فإشارة إلى ما ورثوه من العلم. واستعمل لفظ الورثة لكون ذلك بغير ثمن ولا منة، وقال لعلي [رضي الله عنه]:
«أنت أخي ووارثي»، قال: «وما أرثك؟» قال: «ما ورثت الأنبياء قبلي، كتاب الله وسُنّتي» ووصف الله تعالى نفسه بأنه الوارث من حيث إن الأشياء كلها صائرة إليه سبحانه، قال الله تعالى:
{وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وقال: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ}، وكونه تعالى وارثًا لما روى:
«أنه ينادى لمن الملك اليوم؟ فيقال لله الواحد القهار « ويقال: ورثت علما من فلان، أي استفدت منه، قال تعالى:
{وَرِثُوا الْكِتَابَ} - {أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} - {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} - {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} فإن الوراثة الحقيقية هي أن يحصل للإنسان شيء لا يكون عليه فيه تبعة ولا عليه محاسبة، وعباد الله الصالحون لا يتناولون شيئا من الدنيا إلا بقدر ما يجب، وفي وقت ما يجب وعلى الوجه الذي يجب، ومن تناول الدنيا على هذا الوجه لا يحاسب عليها ولا يعاقب، بل يكون ذلك له عفوا صفوا كما روى أنه:
 «من حاسب نفسه في الدنيا لم يحاسبه الله في الآخرة»)[2] [انتهى قوله].

أقول:
اَشتمل قول الراغب الأصفهاني على جملة من المعارضات للقرآن والسُنَّة النبوية، وذلك أن الراغب الأصفهاني قد تقيد بالموروث العقدي لسُنّة الشيخين، وهي على النحو الآتي:

أولاً: معارضة تأويله الإرث بــ : (إنّ المال لا قدر له عند الأنبياء (عليهم السلام) حتى يتنافسوا فيه) للقرآن والسُنَّة.
لم يشذ الراغب عن مشايخه في الانتصار لخصم فاطمة (عليها السلام) في مصادرة حقوقها، فأوَّلَ قوله تعالى في (يرثني) الى النبوة والعلم والحكمة وغيرها مما مرَّ ذكره ومناقشته في المسألة السابقة، إلا أن الشيء الجديد، هو قوله:
(إنَّ المال لا قدر له عند الأنبياء (عليهم السلام) حتى يتنافسوا فيه)؛ وهي مغالطة، بل وتخليط في المفاهيم والأفكار، إذ أن من البداهة أن يكون المال الذي يجمع لأغراض الملذات والشهوات لا قدر له عند الأنبياء وذلك لنزاهة نفوسهم من الرذائل الأخلاقية.
أما المال الذي يحتاجون إليه في أوجه البر المتعددة، وإقامة الفرائض، وقيام الدين، فهو نِعم العون على طاعة الله تعالى، وقد أسماه عزّ وجل في محكم التنزيل: خيراً، وامتدح المال في موضع آخر، وأظهر سبحانه فضل المال، وهي على النحو الآتي:

1- قال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة/180].

2 ـ وقد أثنى الله تعالى على مال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد (عليها السلام) وما أصاب منه سيد الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال سبحانه:
{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [سورة الضحى/8].
فقد أغناه الله عز وجل بهذا المال ولو كان الأمر كما قال الراغب الأصفهاني لكان الإسلام في حدود مكة وما تعدى حدودها أو إن كان له بقية.

3 ـ وقد أظهر الوحي فضل المال على الذرية، وأنّه من رحمة الله تعالى، فقال سبحانه في قصة موسى والخضر (عليهما السلام):
 {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [سورة الكهف/83].

4 ـ وفي بيان فضله على عباده في مدهم بالأموال والأولاد، فمدح سبحانه هذه النِعم وجعل الاستغفار مفتاحاً لها، فقال عز وجل:
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [سورة نوح/10-12].

5 ـ وقد دعا الله عزّ وجل عباده الى السعي والعمل والجد في التكسب على النفس والعيال وأداء ما رَغب إليه في الإنفاق والصدقات، فسماه سبحانه بالفضل من عنده، فقال عز وجل:
{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [سورة النساء/32].

6 ـ وندب عباده ورغَّبَهُم في الجهاد في سبيله بأنفسهم وأموالهم فجعل المال بموازاة النفس في الجزاء بأنّ لهم الجنة، فقال سبحانه:
{إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأموالهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} [سورة التوبة/111].
وغيرها من الآيات المباركة الكاشفة عن مدح المال وأهميته في أداء الواجبات والمندوبات.

أما ما ورد في السُنَّة في ذلك فكثير جداً، مما شكل بنية معرفية في بناء اقتصاد الفرد والمجتمع؛ وليس كما قال الراغب الأصفهاني: (إن المال لا قدر له عند الأنبياء [عليهم السلام])، وحسبك من هذا التغليط ما ورد في السُنَّة النبوية في بيان التفريق بين مَنْ يجمع المال لأداء الحقوق والاستغناء عن المسألة الى الناس، وبين من يجمعه للتكاثر والتفاخر، فمما روي في ذلك:

أ- أخرج ابن أبي شيبة الكوفي (ت 235هـ) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم]:
«من طلب الدنيا حلالاً استعفافاً عن المسألة وسعياً على أهله وتعطفاً على جاره، لقيَ الله ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا مكاثراً بها حلالا، مرائياً، لقي الله وهو عليه غضبان»[3].

ب- ورويَ عن ابن عباس، أنّه قال:
(قدمت عِير إلى المدينة، فاشترى النبي [صلى الله عليه وآله وسلم] منها، فربح أواقاً، فقسمها في أرامل بني عبد المطلب، وقال:
«لا أشتري شيئا ليس عندي ثمنه»)[4].

ج ـ وروى الحاكم النيسابوري (ت 405هـ) في كتاب البيوع: (إنّ الصحابة ذكروا الغنى في محضر رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم]، فقال:
«لا بأس بالغنى لمن اتقى، والصحة لمن اتقى خير من الغنى، وطيب النفس من النعيم»[5].
وغيرها من النصوص الشريفة الكاشفة عن حقيقة هذا التغليط الذي اعتمده أعلام أهل السُنَّة والجماعة في تضافرهم على هضم فاطمة (عليها السلام)[6].

الهوامش:
[1] قال الزمخشري: «القنى والقنية: ما اقتنى من شاة أو ناقة، فجعله واحدًا كأنه فعيل بمعنى مفعول، وهو الصحيح؛ يقال: قنوت النعم وغيرها قنوة، وقنيت قنية اذا اقتنيتها لنفسك لا للتجارة»، (النهاية في غريب الحديث لأبن الأثير: ج4 ص117).
[2] المفردات في غريب القرآن: ص 519.
[3] المصنّف: ج5 ص 258.
[4] المصدر السابق.
[5] المستدرك على الصحيحين: ج2 ص 3.
[6] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : معارضة حديث لا نورث للقرآن والسُنّة واللغة ، السيد نبيل الحسني : ص134– 141، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة / العتبة الحسينية المقدسة ، ط1 لعام 2022م

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3002 Seconds