بقلم : السيد نبيل الحسني الكربلائي.
أما الموضع الثاني الذي تناول فيه نفي الإرث فيما بين الأنبياء (عليهم السلام) فهو في قوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} [سورة مريم/6] ضمن المسألة الخامسة، فقال:
(من {يَرِثُنِي وَيَرِثُ}، وجوه: أحدها: القراءة المعروفة بالرفع فيهما صفة؛ وثانيها: وهي قراءة أبي عمر والكسائي، والزهري، والأعمش - الى أن يقول في بيان معنى الإرث في الآية والمراد منه:
(واختلفوا في المراد بالميراث على وجوه، أحدها: أن المراد بالميراث في الموضعين هو وراثة المال، وهذا قول ابن عباس، والحسن، والضحاك.
وثانيها: إنّ المراد به في الموضعين، وراثة النبوة، وهو قول أبي صالح؛ وثالثها: يرثني المال، ويرث من آل يعقوب النبوة، وهو قول السدّي ومجاهد والشعبي، وروي أيضا عن ابن عباس والحسن والضحاك؛ ورابعها: يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوة، وهو مروي عن مجاهد.
وأعلم أن هذه الروايات ترجع إلى أحد أمور خمسة، وهي: المال، ومنصب الحبورة، والعلم، والنبوة، والسيرة الحسنة، ولفظ الإرث مستعمل في كلها؛ أما في المال فلقوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأموالهمْ} وأما في العلم فلقوله تعالى:
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [سورة غافر/53] وقال (عليه السلام) -[صلى الله عليه وآله وسلم]-:
«العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم « وقال تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النمل/15] {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُود}.
وهذا يحتمل وراثة الملك ووراثة النبوة، وقد يقال: أورثني هذا غماً وحزناً، وقد ثبت أن اللفظ محتمل لتلك الوجوه. واحتج من حمل اللفظ على وراثة المال بالخبر والمعقول، أما الخبر فقوله (عليه السلام) -[صلى الله عليه وآله وسلم]-:
«رحم الله زكريا ما كان له من يرثه» وظاهره يدل على أن المراد إرث المال، وأما المعقول فمن وجهين. الأول: أن العلم والسيرة والنبوة لا تورث، بل لا تحصل إلا بالاكتساب فوجب حمله على المال. الثاني: أنه قال: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} ولو كان المراد من الإرث إرث النبوة لكان قد سأل جعل النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) رضياً وهو غير جائز لأن النبي لا يكون إلا رضياً معصوماً.
وأما قوله (عليه السلام) -[صلى الله عليه وآله وسلم]-:
«إنا معشر الأنبياء لا نورِّث ما تركناه صدقة».
فهذا لا يمنع أن يكون خاصاً به!! واحتج من حمله على العلم أو المنصب والنبوة بما علم من حال الأنبياء أن اهتمامهم لا يشتد بأمر المال كما يشتد بأمر، وقيل: لعله أوتي من الدنيا ما كان عظيم النفع في الدين فلهذا كان مهتماً به.
أما قوله: النبوة كيف تورث؟ قلنا: المال إنما يقال ورثه الابن بمعنى قام فيه مقام أبيه وحصل له من فائدة التصرف فيه ما حصل لأبيه وإلا فملك المال من قبل الله لا من قبل المورّث فكذلك إذا كان المعلوم في الابن أن يصير نبياً بعده فيقوم بأمر الدين بعده جاز أن يقال ورثه، أما قوله (عليه السلام) - [صلى الله عليه وآله وسلم]-:
«إنا معشر الأنبياء» فهذا وإن جاز حمله على الواحد كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [سورة الحجرة/9] لكنه مجاز وحقيقته الجمع والعدول عن الحقيقة من غير موجب لا يجوز لاسيما وقد روي قوله:
«إنا معاشر الأنبياء لا نورِّث» والأولى أن يحمل ذلك على كل ما فيه نفع وصلاح في الدين، وذلك يتناول النبوة والعلم والسيرة الحسنة والمنصب النافع في الدين والمال الصالح، فإن كل هذه الأمور مما يجوز توفر الدواعي على بقائها ليكون ذلك النفع دائماً مستمراً)[1].
أقول:
1 ـ لقد أمتاز هذا القول بانه استقراء لأقوال المفسرين وغيرهم في المراد من الإرث في الموضعين من الآية المباركة أي: في قوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} ثم أخذ يناقش هذه الأقوال فمرة يَرُدها جميعاً، وأخرى يُرَجِّحها جميعاً ويقبل بها لا سيما التوارث في الأموال، وهذا تناقض في المنهج، فضلاً عن أن الباطل يضرب بعضه بعضاً فيسقط ويَبِين بذلك الحق؛ فيقول: (وقد ثبت إن اللفظ محتمل لتلك الوجوه) ثم يتراجع عن هذا الثبوت.
2 ـ لقد ناقض الفخر الرازي نفسه ونَسي أنه قطع في الموضع الأول، أي في بيانه للمراد من قوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} بان لا توارث في الأموال بين الأنبياء (عليهم السلام) فقال حينها:
(من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين: أن الأنبياء (عليهم السلام) لا يورِّثون، والشيعة خالفوا فيه، روي: أن فاطمة (عليها السلام) لما طالبت الميراث، ومنعوها منه، احتجوا بقوله (عليه الصلاة والسلام): نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث ما تركناه صدقة).
وفي هذه الآية، أي: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} حينما ناقش المراد من الإرث واختلاف الأقوال فيه عند أعلام أهل السُنَّة والجماعة، قال:
(والأولى: أن يحمل ذلك على كل ما فيه نفع وصلاح في الدين، وذلك يتناول النبوة والعلم والسيرة الحسنة والمنصب النافع في الدين والمال الصالح، فإن كل هذه الأمور مما يجوز توافر الدواعي على بقائها ليكون النفع دائماً مستمراً).
وهذا القول ترد عليه جملة من الاستفهامات، ومنها:
أ ـ هل الأصل في المسألة هو توافر الدواعي في بقاء هذه الأشياء أم الانتقال وزوال الملكية، وهي الضابطة والأصل الذي عليه مبنى الحكم في الفرائض؟!
ب ـ إن هذه الموارد أو (الدواعي) عامة في الناس وهي خارجة عن التخصيص في حكم التوارث بين الأنبياء (عليهم السلام) فهل هم يتوارثون أم لا يتوارثون، فإذا كانوا: لا يتوارثون فلماذا خصهم الله بمحكم التنزيل واثبت لهم التوارث، وإذا كانوا يتوارثون وأن لأولادهم حق في أموالهم في عموم قوله عز وجل {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن...} فلماذا تمنع فاطمة (عليها السلام) من إرث أبيها وتدفع عن حقوقها؟!
ولماذا يتضافر أعلام أهل السُنَّة والجماعة على هضمها؟!
ج ـ لم يأتِ الفخر الرازي بقرينة تكشف عن المراد في أن التوارث بين الأنبياء يكون (بالمال الصالح) والسؤال المطروح: فهل في مالهم (عليهم السلام) ما هو غير صالح، فاذا كانت الأنبياء - والعياذ بالله- مالها مخلوط بالصالح والفاسد، فما هو حال أموال عامة الناس، لا شك أن الأنبياء (عليهم السلام) بريؤون مما ينسب إليهم من المساوئ كعدم التوارث فيما بينهم أو اختلاط أموالهم؟!!
3 ـ إنّ الذي يقود الى القطع بأن هذه (الدواعي) التي صحح الفخر الرازي نسبتها الى الإرث بين الأنبياء (عليهم) وذلك أن الأصل في الحديث هو بيان المراد من قوله عزّ وجل: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} هي دواعٍ وهمية ومتناقضة، بل ومعارضة لوراثة المال، وهو ما طالبت به البضعة النبوية فاطمة (عليها السلام)، وذلك أنها جاءت الى أبي بكر الذي صادر أموال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جميعاً سواء كانت مالية واقتصادية أو معيشية .
فرّد عليها أبو بكر أن الأنبياء لا يورِّثون المال، وأنّ هذا المال هو صدقة، لكن أعلام أهل السُنَّة والجماعة يذرون الرماد في العيون ويشغلون الباحث والقارئ بهذه الزخارف من القول في التضافر على هضم بضعة النبوة (عليها السلام) وإيذائها.
وإلا فقول أبي بكر وفعله قرينة واضحة وحجة بينة على أن ما شجر بينه وبين بضعة النبوة وصفوة الرسالة فاطمة (عليها السلام) هو: (ما تركناه) فمنعه عنها وصادره منها دون وجه حق، و «نعمَّ الحكم الله والزعيِم محمد»[2] (صلى الله عليه وآله وسلم) . [3]
الهوامش:
[1] تفسير الفخر الرازي: ج21 ص184.
[2] وهو قول البضعة النبوية (عليها السلام) في احتجاجها على أبي بكر، ينظر: الاحتجاج للطبرسي: ج1 ص 139؛ بلاغات النساء لابن طيفور: ص14.
[3] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : معارضة حديث لا نورث للقران والسُنّة واللغة ، السيد نبيل الحسني : 159/165 ، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة التابعة للعتبة الحسينية المقدسة ، ط1 دار الوارث كربلاء المقدسة - 2021م