من سياسة الإمام علي عليه السلام في بيت المال 3-التجارة والصناعة.

مقالات وبحوث

من سياسة الإمام علي عليه السلام في بيت المال 3-التجارة والصناعة.

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 16-08-2023

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:
التجارة والصناعة هما من مصادر الدولة المهمة في عصر صدر الإسلام وان لم تكونا في مستوى الخراج اهمية. فقد كان عمر بن الخطاب يستوصي بالتجار، ويسهر على راحتهم، حتى بلغ به الأمر حراستهم وحراسة اموالهم بنفسه، فمما يؤثر عنه انه «كان يعس ليلاً، فنزلت رفقة من التجار بالمصلى، فقال لعبد الرحمن بن عوف، هل لك ان نحرسهم الليلة من السرق؟ فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما»[1]، ولأهمية التجارة في حياة الأمة وفي انتعاش اقتصاد الدولة، فقد أفرد لها علي عليه السلام مساحة من فكره الاقتصادي يمثله قوله لمالك الأشتر «ثم استوص بالتجار، وذوي الصناعات واوص بهم خيرا، المقيم منهم والمضطرب ماله، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك وسهلك وجبلك حيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها»[2]. فالتجارة بما يكتنفها من المخاطر والمغامرة بالأموال من قبل التجار، إلا أنها ضرورية بل وأساسية في حياة الناس، لأنها توفر ما يحتاجونه من اله وكساء وطعام، هذا بالإضافة إلى ما تدره على بيت المال من دخل يتمثل في جباية الأسواق بالإضافة إلى الضرائب التي يدفعها التجار مقابل ما يجلبونه من مؤن وبضائع إلى البلاد، لذا من واجب الحكومة ان ترعاهم بما يكفل لهم الربح المعقول، وتجنبهم الخسارة، بتوفير الامن والحماية لهم، إذ لا يمكن أن تستقر تجارة إلا في مجتمع مستقر، ولا يمكن للتاجر أن يستثمر أمواله إلا إذا شعر بالأمان، لما في طبعه من حذر وحيطة وجبن، فالتجار على العموم ـ من وجهة نظر عليعليه السلام ـ «سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تغشى غائلته»[3]. لكن علياً عليه السلام لم يترك الحبل على غاربه للتجار، بحيث يمكنهم التصرف في الاسواق كما يشاؤون، فهو في الوقت نفسه الذي أحاطهم فيه بالرعاية، فإنه قد نبه إلى ان «في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحًا، واحتكارًا للمنافع وتحكما في البياعات»[4]، لذا فمن وجب ولي الأمر  والسوق مفتوحة للجميع ـ ان يراقب الاسعار ويحول بين التجار والاضرار بالناس[5]فالتجارة وإن كانت ضرورية، ومصدراً مهماً من مصادر الدخل ـ كما تبدو في فكر علي عليه السلام ـ إلا أنها مقننة بما يتماشى ومثاليته المتناهية في تطبيق شرائع الإسلام طبقا للكتاب والسنة.
أما الصناعة والصناع الذين وصى واليه الأشتر بهم خيراً[6]، فإن الذي يقصده من وصيته تلك ـ كما نستخلص من سيرته[7]ـ أنه يريد بذلك حمايتهم وحماية صناعتهم من الانقراض، حتى لا يتضرر الناس ويتأثر الاقتصاد، فإن قلة الحاجة إلى بعض الصناعات في وقت ما لا يعني إهمالها وعدم رعايتها، فقد تكون تلك الصناعة متوفرة في اقليم ونادرة في إقليم آخر، فتعهدها وحمايتها يعني التكامل الاقتصادي فيما بين اقاليم الدولة المختلفة لأن «اختصاص بعض الأمصار ببعض الصنائع تدون بعض، وذلك أنه من البين أن أعمال أهل مصر يستدعي بعضها بعضاً لما في طبيعة العمران من التعاون»[8]. لذا كان علي عليه السلام ـ فيما نعتقد ـ يأخذ ضمن الجزية والخراج والزكاة، بعض الصناعات المتداولة في عصره. يقول أبو يوسف «كان علي بن أبي طالب عليه السلام فيما بلغنا يأخذ منهم (أي أهل الذمة) في جزيتهم الإبر والمسال ويحسب لهم من خراج رؤوسهم»[9]. وقد ورد عند البلاذري أن علياً عليه السلام كان «يقسم العطور بين نسائنا»[10] كما كان يقسم بينهن الإبر التي كان يأخذها «من اليهود مما عليهم من الجزية»[11] وهو بعمله ذاك انما يهدف إلى تشجيع الصناعات والابقاء عليها باعتبارها احد مصادر الدولة. تلك هي اذن مصادر المؤسسة المالية وكيفية جبايتهاـ كما تبدو في فكر علي عليه السلام ـ فما هي سبل صرفها؟)[12].

الهوامش:
[1] ابن أبي الحديد 12/14.
[2] رسائل 53، فقرة 24، والمضطرب بماله: الذي لا يستقر في بلد ما، والمترفق ببدنه: المتكسب من عمل يده من بناء ونجار وغيره، والمرافق: ما ينتفع بها من ادوات، جلا بها: الذين يأتون بها.
[3] السابق، وبائقته: داهيته ومكره، وغائلته: عصيانه وتمرده.
[4] المصدر السابق.
[5] المصدر السابق.
[6] راجع السابق، مطلع الفقرة.
[7] راجع ابن أبي الحديد2/199ـ طريقة علي (عليه السلام) في تقسيم ما في بيت المال.
[8] مقدمة ابن خلدون 472.
[9] الخراج ص 122، المسال: ابر الخياطة الكبيرة التي يخاط بها الخيش:
[10] أنساب الأشراف 2/137.
[11] المصدر السابق نفسه.
[12] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 342-344.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2600 Seconds