بقلم: السيد نبيل الحسني.
تكمن أهمية التركيز على التقوى والابتداء بها في أول الأوامر التي وجهها أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر(رحمه الله) ، هو لكونها (بحسب العرف الشرعيّ يعود إلى خشية الحقّ سبحانه المستلزم للإعراض عن كلّ ما يوجب الاَلتفات عنه من متاع الدنيا وزينتها وتنحية ما دون وجهه عن جهة القصد، ولمّا كان الترك والإعراض المذكور هو الزهد الحقّيقي كما علمت، وكان التقوى وسيلة إليه علمت أنّه من أقوى الجواذب إلى الله الرادعة عن الالتفات إلى ما سواه)[1].
ولم يختلف أمره (عليه السلام) للأشتر بالتقوى والاَبتداء بها عن غيره من الولاة أو خاصته وأهل بيته (عليهم السلام)، فقد (كان كثيرا ما يوصي أصحابه بتقوى الله ففي الكافي بإسناده عن أبي الحسن موسى (عليه السّلام)، قال:
«كان أمير المؤمنين عليه السّلام يوصي أصحابه ويقول: أوصيكم بتقوى الله فإنها غبطة الطالب الراجي، وثقة الهارب اللاجي، واستشعروا التقوى شعارا باطنا، واذكروا الله ذكرا خالصا، تحيوا به أفضل الحياة، وتسلكوا به طريق النجاة...»[2].
وعن سليم بن قيس الهلالي[3]، قال: شهدت وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام حين أوصى إلى ابنه الحسن -يعني حين ضربه ابن ملجم- وأشهد على وصيّته الحسين ومحمّدا وجميع ولده ورؤساء شيعته - إلى أن قال: قال عليه السّلام:
«ثمّ إنّي أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه كتابي من المؤمنين بتقوى الله ربّكم..»[4]..)[5].
ولقد كان هذا من دأبه (عليه السّلام) امتثالا لأمر الله سبحانه واقتداء بكلامه حيث قال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء 132].
وقد أفاد بعض الأماجد أنّ جميع خيرات الدّنيا والآخرة جمعت في كلمة واحدة هي التقوى. انظر إلى القرآن ما علَّق عليها من خير وثواب وأضاف إليها من سعادة وكرامة دنيوية واخروية:
الأوّل: الثناء عليها قال الله سبحانه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [ال عمران: 186].
الثاني: الحفظ والحراسة من الأعداء والماكرين قال الله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [ال عمران: 120].
الثالث: التأييد والنصر قال الله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].
الرّابع: النجاة من النار قال الله سبحانه: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72].
الخامس: الخلود في الجنّة قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [ال عمران: 133].
السّادس: النجاة من الشدائد والرزق الحلال قال الله تعالى: {ومَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَه مَخْرَجاً ويَرْزُقْه مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 -3].
السّابع: إصلاح العمل قال عزّ شأنه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ} [الأحزاب:70].
الثامن: غفران الذّنب قال الله جلّ جلاله: {ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب:71].
التاسع: محبّة الله تعالى عزّ اسمه: {بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِه} [ ال عمران: 77].
العاشر: قبول الأعمال قال الله عمّ نواله: {إِنَّما يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:13].
الحادي عشر: الاكرام والإعزاز قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ} [الحجرات:13].
الثاني عشر: البشارة عند الموت قال الله عظم شأنه: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:64].
ولأجل اجتماع تلك الخصال قال الله سبحانه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131].
ومما روي عن (النّبي صلَّى الله عليه وآله، أنّه قال:
«جماع التقوى في قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإِحْسانِ وإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ويَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والْمُنْكَرِ والْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}» [النحل: 91] [6].
وعُرّفَ التقي بأنه: (الَّذي اتّقى ما حرم عليه وفعل ما أوجب عليه. وقيل: هو الَّذي يتّقى بصالح أعماله عذاب الله)[7].
ومن ثمّ: لا يمكن للإنسان أن يسير في منهاج تهذيب النفس وبناء الذات ما لم يعتمد التقوى أداة له «فِي سَرَائِرِ أَمْرِه وخَفِيَّاتِ عَمَلِه»، كما أمر إمام المتقين (عليه السلام) مالك الاشتر (رحمه الله) بذلك لمّا ولاه على مصر[8].
الهوامش:
[1] شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج1 ص299.
[2] الكافي، الكليني: ج8 ص17.
[3] سليم بن قيس الهلاليّ يكنّى أبا صادق من أولياء أمير المؤمنين عليه السلام طلبه الحجّاج ليقتله فهرب وآوى إلى أبان بن أبي عيّاش فلمّا حضرته الوفاة أعطاه كتابا. ذكره النجاشيّ في زمرة من ذكره من سلفنا الصالح في الطبقة الأولى. وعدّه الشيخ في رجاله من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وأصحاب الحسن عليه السلام وأصحاب الحسين عليه السلام وأصحاب السجّاد والباقر عليهما السلام، وقال في الفهرست: له كتاب. وذكره المصنّف في القسم الأوّل من الخلاصة. قال المامقانيّ: إنّ الرجل مشكور وكتابه صحيح. وقال السيّد الخوئيّ: إنّ سليم بن قيس في نفسه ثقة جليل القدر عظيم الشأن، وأمّا كتابه على ما ذكره النعمانيّ من الأصول المعتبرة بل من أكبرها وإنّ جميع ما فيه صحيح قد صدر من المعصوم أو ممّن لا بدّ من تصديقه وقبول روايته، وعدّه صاحب الوسائل من الكتب المعتمدة التي قامت القرائن على ثبوتها وتواترت عن مؤلَّفيها أو علمت صحّة نسبتها إليهم بحيث لم يبق فيها شكّ. (ينظر: منتهى المطلب (ط. ج)، العلامة الحلي: ج8/ هامش ص 562).
[4] من لا يحضره الفقيه، الصدوق: ج4 ص190؛ سليم بن قيس الهلالي: ص445
[5] منهاج البراعة، حبيب الله الخوئي: ج18 ص85
[6] منهاج البراعة، الخوئي: ج19 ص44-45
[7] المصدر السابق.
[8] لمزيد من الاطلاع، ينظر : فقه صناعة الإنسان ، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي(عليه السلام) لمالك الاشتر(رحمه الله) ، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق ، السيد نبيل الحسني، إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة - العتبة الحسينية المقدسة ، ط 1/ درا الوارث كربلاء المقدسة 2023م