دلالة صيغة الأمر في قوله عليه السلام لمالك الاشتر: «أَمَرَهُ بِتَقْوَى الله...» في ضوء تهذيب النفس وبناء الذات. الحلقة الثانية: محورية التقوى في المطاردة بين الشياطين والملائكة في ساحة النفس.

مقالات وبحوث

دلالة صيغة الأمر في قوله عليه السلام لمالك الاشتر: «أَمَرَهُ بِتَقْوَى الله...» في ضوء تهذيب النفس وبناء الذات. الحلقة الثانية: محورية التقوى في المطاردة بين الشياطين والملائكة في ساحة النفس.

938 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 13-06-2024

بقلم : السيد نبيل الحسني.

أَوْلّىَ علماء الاخلاق مسألة التقوى عناية كبيرة، وذلك لمحوريتها في معركة النفس وما يدور في ساحتها من مطاردة بين الملائكة والشياطين، وما يقوم به كل منهما في التأثير على الإنسان، وذلك (أن الوسواس أثر الشيطان الخناس، والإلهام عمل الملائكة الكرام؛ ولا ريب في أن كل نفس في بدو فطرتها قابلة لأثر كل منهما على التساوي، وإنما يترجح أحدهما بمتابعة الهوى وملازمة الورع والتقوى، فإذا مالت النفس إلى مقتضى شهوة أو غضب وجد الشيطان مجالا فيدخل بالوسوسة، وإذا انصرفت إلى ذكر الله ضاق مجاله وارتحل فيدخل الملك بالإلهام، فلا يزال التطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة النفس لهيولانية[1] وجودها وقابليتها للأمرين بتوسط قوتيها العقلية والوهمية، إلى أن يغلب أحد الجندين ويسّخر مملكة النفس ويستوطن فيها، وحينئذ يكون اجتياز الثاني ، أي الشيطان على سبيل الاختلاس، وحصول الغلبة إنما هو بغلبة الهوى أو التقوى، فإن غلب على النفس الهوى وخاضت فيه صارت مرعى الشيطان ومرتعه وكانت من حزبه، وإنْ غلب عليها الورع والتقوى صارت مستقر الملَك ومهبطه ودخلت في جنده، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
«خلق الله الإنس ثلاثة أصناف: صنف كالبهائم، قال الله تعالى:
{لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا}. وصنف أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف كالملائكة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله»[2].
ولا ريب في أن أكثر القلوب قد فتحها جنود الشياطين وملكوها، ويتصرفون فيها بضروب الوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة واَطراح الآجلة.
والسر فيه: أن سلطنة الشيطان سارية في لحم الإنسان ودمه ومحيطة بمجامع قلبه وبدنه، كما أن الشهوات ممتزجة بجميع ذلك، ومن هنا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«إن الشيطان ليجري من بني آدم مجرى الدم» [3]

وقال الله سبحانه :
{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 16].
فالخلاص من أيدي الشياطين يحتاج إلى مجاهدة عظيمة ورياضة شاقه فمن لم يقم في مقام المجاهدة كانت نفسه هدفا لسهام وساوسهم وداخلة في أحزابهم)[4].
ومما لا ريب فيه أن سلّم المجاهدة النفسانية يبتدأ بالتقوى وذلك لما لها من أثر في الخلاص من الوقوع في شباك الهوى ، وبتقديم الإيثار ، أي إيثار طاعة الله على هوى النفس ورغباتها فبذلك يمكنها الخلاص من تلك الحبائل التي تنصبها الشياطين للإنسان ، وبذلك تتضح لنا العلة التي من أجلها ابتدأ أمير المؤمنين (عليه السالم) أوامره لمالك الأشتر «بِتَقْوَى الله فِي سَرَائِرِ أَمْرِه وخَفِيَّاتِ عَمَلِه»[5].

الهوامش:
[1] الهيولي لفظ يوناني بمعنى الأصل و المادة.
[2] تفسير السمرقندي: ج1 ص581، بحار الأنوار، المجلسي: ج60 ص292، الجامع الصغير، السيوطي: ج1 ص607
[3] عوالي اللئالئ ، ابن أبي جمهور الإحسائي : ج4 ص113؛  تفسير الرازي: ج1 ص 82
[4] جامع السعادات، النراقي: ج1 ص146
[5] لمزيد من الإطلاع ، ينظر : فقه صناعة الإنسان ، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي(عليه السلام) لمالك الاشتر(رحمه الله) ، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق ، السيد نبيل الحسني ، ص94-96 / إصدرا: مؤسسة علوم نهج البلاغة - العتبة الحسينية المقدسة ، ط 1 -  درا الوارث كربلاء المقدسة 2023م

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2808 Seconds