بقلم: السيد نبيل الحسني.
1- قصدية ترتيب الأوامر الثلاث.
في الأمر الثالث الذي تضمنه كلامه (عليه السلام) لمالك الأشتر بعد أن تصدر القول بلفظ: «أَمَرَهُ» كان الأمر باتباع الفرائض والسنّن التي وردت في كتاب الله تعالى، فقال (عليه السلام):
«واتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِه فِي كِتَابِه مِنْ فَرَائِضِه وسُنَنِه، الَّتِي لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا، ولَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وإِضَاعَتِهَا».
والملاحظ في ترتيب الأصول الثلاثة أن أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن رَّكَزَ على القاعدة الأساس في كل بناء والأصل في كل صناعة، وهما التقوى والطاعة، أي العمل بالتخلية والتحلية أو بالمنع والترك للرذائل ثم الأخذ والأقبال على الفضائل، ينتقل (عليه السلام) إلى الأصل الثالث وهو الإقبال على الفرائض والسنّن، أي يصبح الإنسان ذو قابلية على «اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِه [الله] فِي كِتَابِه مِنْ فَرَائِضِه وسُنَنِه».
وهو ما يكشف عن أن الصناعة في منهاج الوصي (عليه السلام) تكون ابتداءً بالنفس الإنسانية وتهيئتها وتهذيبها وخلق القابلية فيها للاستعداد لتلقي الحكم الشرعي في الفرائض والسنّن، أي أن الابتداء بالإنسان قبل الفرائض والسنّن، فكيف يتابع المسير من كان معاقا أو كسير؟
ولذلك جاءت هذه الأصول الثلاثة ضمن نسق واحد تقدمه لفظ «اَمَرَهُ» في أوّل العهد، بل في أوّل الأوامر التي اشتمل عليها العهد الشريف.
2- أثر الفرائض والسُنَنّ في تحقيق سعادة الإنسان وشقاوته.
تعد مسألة السعادة والشقاوة من المسائل التي شغلت الفكر الإنساني ورافقت مسيرة الإنسان وحياته وشغلت تفكيره، وقد لا نجزم القول بأنها كانت شغله ومطلبه الحياتي فما من إنسان إلا ويحذر من الشقاء ويطمح للرخاء وسبل الوصول إلى السعادة.
ومن ثمَّ تعددت المفاهيم والرؤى والنظريات عند الفلاسفة والحكماء والمفكرين والمصلحين حول السعادة، فمنذ أفلاطون (ح. 428 - 347 ق.م)، مستخدما سقراط (ح. 470 - 399 ق.م) كشخصية رئيسية في محاوراته الفلسفية، متطلبات السعادة في كتابه «الجمهورية» والى يومنا هذا لم تزل الآراء تتباين في السعادة والشقاوة وكيفية الوصول الى الأولى والنجاة من الثانية.
أما عند علماء الأخلاق فلا (تحصل السعادة إلا بإصلاح جميع الصفات والقوى دائما، فلا تحصل بإصلاحها بعضا دون بعض، ووقتا دون وقت، كما أن الصحة الجسمية، وتدبير المنزل، وسياسة المدن لا تحصل إلا بإصلاح جميع الأعضاء والأشخاص والطوائف في جميع الأوقات، فالسعيد المطلق من أصلح جميع صفاته وأفعاله على وجه الثبوت والدوام بحيث لا يغيره تغير الأحوال والأزمان، فلا يزول صبره بحدوث المصائب والفتن، ولا شكره بورود النوائب والمحن، ولا يقينه بكثرة الشبهات، ولا رضاه بأعظم النكبات، ولا إحسانه بالإساءة، ولا صداقته بالعداوة.
وبالجملة لا يحصل التفاوت في حاله، ولو ورد عليه ما ورد على أيوب النبي (عليه السلام) أو على برناس الحكيم[1]، لشهامة ذاته، ورسوخ أخلاقه وصفاته، وعدم مبالاته بعوارض الطبيعة، وابتهاجه بنورانيته وملكاته الشريفة.
بل السعيد الواقعي لتجرده وتعاليه عن الجسمانيات خارج عن تصرف الطبائع الفلكية، متعال عن تأثير الكواكب والأجرام الأثيرية فلا يتأثر عن سعدها ونحسها، ولا ينفعل عن قمرها وشمسها. أهل التسبيح والتقديس لا يبالون التثليث والتسديس، وربما بلغ تجردهم وقوة نفوسهم مرتبة تحصل لهم ملكة الاقتدار على التصرف في مواد الكائنات، ولو في الأفلاك وما فيها، كما حصل لسيد الأنبياء وسيد الأوصياء صلوات الله عليهما وآلهما من شق القمر ورد الشمس.
وقد ظهر مما ذكر أن من يجزع بورود المصائب الدنيوية، ويضطرب من الكدورات الطبيعية، ويدخل نفسه في معرض شماتة الأعداء وترحم الأحباء، خارج عن زمرة السعداء، لضعف غريزته وغلبة الجبن على طبيعته، وعدم نبله بعد إلى الابتهاجات التي تدفع عن النفس أمثال ذلك.
ومثله لو تكلف الصبر والرضا وتشبه ظاهرا بالسعداء لكان في الباطن متألما مضطربا، وهذا ليس سعادة لأن السعادة الواقعية إنما هو صيرورة الأخلاق الفاضلة ملكات راسخة بحيث لا تغيرها المغيرات ظاهرا وباطنا)[2]؛ وهو ما تجسد عند أمير المؤمنين (عليه السلام) في الفرائض والسنّن التي أنزلها الله تعالى في كتابه فما من أحد اتبعهما إلا وسعد وما من أحد تركهما وضيعهما إلا وشقي في الدنيا والآخرة.
ولذا أمر (عليه السلام) الأشتر(رحمه الله) بهما، فقال:
«واتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِه فِي كِتَابِه مِنْ فَرَائِضِه وسُنَنِه -الَّتِي لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا- ولَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وإِضَاعَتِهَا» [3].
الهوامش:
[1] فيلسوف من المدرسة الفيتاغورسية الجديدة من مدينة طوانة القديمة بآسيا الصغرى لا يعرف عنه إلا القليل وقد كان الكيميائيون يجلونه كثيرا واعتبروه أول من تكلم بالطلسمات، توفي سنة 100 ميلادية، ينظر: ويكيبيديا (بليناس الحكيم).
[2] جامع السعادات، النراقي: ج1 ص60-61.
[3] لمزيد من الاطلاع، ينظر: فقه صناعة الإنسان، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رحمه الله)، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق، السيد نبيل الحسني، ص111-114 / مع بعض الإضافة. اصدارات: مؤسسة علوم نهج البلاغة- العتبة الحسينية المقدسة، ط 1- درا الوارث كربلاء المقدسة 2023م