مباحث أخلاقية وتنموية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله). الحلقة (22): دلالة صيغة النهي في قوله (عليه السلام): «ولَا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ» في ضوء الأخلاق وتهذيب النّفس.

مقالات وبحوث

مباحث أخلاقية وتنموية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله). الحلقة (22): دلالة صيغة النهي في قوله (عليه السلام): «ولَا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ» في ضوء الأخلاق وتهذيب النّفس.

380 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 17-04-2025

بقلم: السيد نبيل الحسني.

تناولنا في المقال السابق دلالة النّهي في قوله(عليه السلام): «ولَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ الله، فَإِنَّه لَا يَدَ[1] لَكَ بِنِقْمَتِه، ولَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِه ورَحْمَتِه»، ثُمّ ينتقل بنا النّصُ الشريف في جمّلة من النواهي التي تضمّنها العهد إلى بيان آلية جديدة من آليات تهذيب النّفس وتطوير قدراتها، ولاسيما في المواقع التي يكون فيها الإنسان معني باتخاذ القرار والقيادة.
فيقول (عليه السلام) لمالك: «ولَا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ»، ومن ثمّ فما هي علة النّهي هنا، وما تأثير تصديق الساعي بالوشاية على السامع والناقل والموشى به؟

1- معنى السَّاعِي لُغَةً.
ترشد معاجم اللغة إلى أنّ معنى الساعي هو: «الذي يقومُ بأَمرِ أَصحابه عند السُّلْطانِ، والجمعُ السُّعاةُ.
وسَعَى به سِعايَةً إلى الوَالي: وَشَى.
وفي حديث ابن عباس أَنَّه قال: السَّاعِي لغَيْرِ رِشْدَةٍ.
أَراد بـ: (السَّاعِي) الذي يَسْعَى بصاحبه إلى سُلطانه فيَمْحَلُ به ليُؤْذِيَه، أَي أَنَّه ليسَ ثابتَ النَّسَبِ من أَبيه الذي يَنْتَمِي إليه ولا هُوَ وَلَدُ حَلالٍ.
وفي حديث كعب: السَّاعِي مُثَلِّثٌ؛ تأْويلُه: أَنه يُهْلِك ثلاثةَ نَفَرٍ بسِعايته: أَحَدُهم المَسْعِيُّ به، والثاني السُّلْطانُ الذي سَعَى بصاحبه إليه حتى أَهْلَكَه، والثالث هو السَّاعِي نفسه، سُمِّيَ مُثَلِّثاً لإِهْلاكه ثلاثَةَ نَفَرٍ، ومما يُحَقّق ذلك الخبرُ الثابت عن النبي، (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، أَنه قال:
(لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ).
فالقَتَّاتُ والساعِي والماحِلُ واحدٌ»[2].

2 ـ دلالة النهي في «ولَا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ» وأثرها في تهذيب النّفس.
إنّ المستفاد من المعنى اللغوي لمفردة الساعي يكمن في بيان النّهي بتصديق من يوشي بأخوانه أمام السلطان أو من بيده القرار، ويسري حكمه وأثره في العلاقات الشخصية.

أي: من الواجب على المسلم أن لا يصدّق بمن يشي بأخوانه ليسقط من قدرهم ومنزلتهم، ومن ثمّ يترتب على ذلك جملة من الأثار كالفرقة والتباغض والتباعد وتفكك العلاقات الشخصية بل والأسرية حينما يتم نقل بعض الأمور التي يراد منها توهين الشخص في محضر أهله وأصدقاءه واخوانه، ولاسيما أنه (عليه السلام) قد بينَّ في موضع آخر ما يترتب على العلاقة بالوشاة، فيقول:
«ومَنْ أَطَاعَ الْوَاشِيَ ضَيَّعَ الصَّدِيقَ»[3].
ولذا: يحُذّر من العجلة بتصديق الواشي وإنْ كان يتشبه بالصالحين، والعلة فيه:

أ- إنّ الواشي حينما يقوم بالوشاية بالآخرين فهو يتمظهر بالصلاح كي يوهم السامع بأنه ممن يكنون المحبة والنصيحة للسامع ولو لا هذه المحبة لما نقل إليه أخبار فلان من الناس وكشف له عيوبه.

ب- إنّ التّمظهر بالصلاح يبعث في السامع الثقة والاطمئنان لما يقوله الواشي وينقله من أخبار عن الناس.
والنتيجة: أن كلا الأمرين يمّكنان الواشي من النفوذ إلى نفس السامع، بل يجعلانه واثقا بما يقول مما يؤدي إلى الوقوع في العديد من المحاذير الشرعية والأخلاقية والاجتماعية.

3- علّة وَسْمِه (عليه السلام) (السَّاعِي) بـ (الغَاشْ).
إنّ العلة التي واراء وسمّه (عليه السلام) الساعي بالغاش هي لكونه لم يحفظ الحقوق التي بينه وبين اخوانه سواء مَن وشى بهم وكشف عيوبهم إلى السامع أو بمن أستمع إليه، وذلك لما يترتب على هذا الكشف للعيوب من تهديم للمرؤة والعلاقات الشخصية والاجتماعية، فضلا لما يتبعه من تراكمات في الآثام حينما يقوم السامع بإفشاء ما سمع بين الناس فيكون وبالٌ على الجماعة والمجتمع بأكثر مما يكون على نفس صاحب العيب، وهو ما نهى عنه الوحي في محكم التنزيل قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[4].
ومن ثمّ تتضح لنا العلّة في تنّبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) مالك الأشتر من التصديق بالواشي ويحذّره من أتخاذ القرار فيما يسمع كي لا يقع في ظلم أحد، فضلا عن سريان نهيه (عليه السلام) إلى أصحاب القرار والأمر والإدارة في مختلف ضروب الحياة، وذلك لوقوع نفس الأثار والنتائج عليهم [5].

الهوامش:
[1] وفي نسخة بلفظ (لا يَدَيْ لكَ).
[2] لسان العرب: مادة (سعا): ج14 ص386
[3] نهج البلاغة، الحكمة رقم: 239
[4] النور: 19.
[5] لمزيد من الاطلاع، ينظر: فقه صناعة الإنسان، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر(رحمه الله) ، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق ، السيد نبيل الحسني، ص226- 228/ مع بعض الإضافة، إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة - العتبة الحسينية المقدسة ، ط 1، دار الوارث كربلاء المقدسة 2023م

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2885 Seconds