لقد اوضح الامام امير المؤمنين (عليه السلام) المعنى الحقيقي للزهد الذي معناه الفقر والحاجة والتخلي عن امتلاك شيء من مال وملبس ومسكن؛ فكان (عليه السلام) يتميز بفضيلة الزهد التي بانت أمام أعين الكثير من الناس آنذاك؛ وكان يتقاسم لقمة العيش مع أبسط الناس وكان لا يلبس إلا البسيط من الملبس.
ولكن نجد بعض الذين يشككون في زهد الإمام علي (عليه السلام) في كثير من الروايات التي أولوها واتهموا الإمام (عليه السلام) بأنه لا يشعر لا بحرٍ ولا ببرد, ومن هذه الروايات هي:
إنهم رووا عن الإمام علي «عليه السلام» أنه قال: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» بعث إليَّ وأنا أرمد العين يوم خيبر، فقلت: يا رسول الله، إني أرمد !! فتفل في عيني، فقال: اللهم أذهب عنه الحر والبرد، فما وجدت حراً ولا برداً منذ يومئذٍ.
وذكروا: أنه «عليه السلام» كان يلبس في الحر الشديد القباء المحشو الثخين، ويلبس في البرد الشديد الثوبين الخفيفين (1).
ونقول:
أولاً: قد ذكروا: أن رجلاً دخل على علي «عليه السلام» وهو يرعد تحت سمل قطيفة، (أي قطيفة خلقة) فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله جعل لك في هذا المال نصيباً، وأنت تصنع بنفسك هكذا.
فقال: لا أرزؤكم من مالكم شيئاً، وإنها لقطيفتي التي خرجت بها من المدينة (2) .
قال الحلبي : « قد يقال : لا مخالفة ، لأنه يجوز أن تكون رعدته « عليه السلام » ليست من البرد ، خلاف ما ظنه السائل ، لجواز أن تكون لحمي أصابته في ذلك الوقت » ( 3 ) .
ويرد عليه : أن هذا تأويل بارد ، ورأي كاسد ، بل فاسد ؛ فإن ظاهر الكلام : أن رعدته قد كانت بسبب رقة ما يلبسه ، وهو قطيفة خلقة ( أي بالية ) ، وأنه لو استفاد من نصيبه من المال ، ولبس ما يدفع هذا البرد لم يكن ملوماً . فما يجري له كان هو السبب فيه ، وهو الذي أورده على نفسه . . وقد أصر « عليه السلام » على عدم المساس بالمال الذي تحت يده .
ولعلهم أرادوا في جملة ما أرادوه من هذا الحديث : أن يشككوا الناس بزهده « عليه السلام » في ملبسه ، وأن يقولوا : إن ذلك بسبب عدم شعوره بحر ولا برد .
ثانياً : إننا لا نجد أي ارتباط بين شكوى علي « عليه السلام » من الرمد ، وبين الدعاء المنسوب للنبي « صلى الله عليه وآله » وهو: اللهم أذهب عنه الحر والبرد ، فإنه « عليه السلام » لم يكن يشكو من حر ولا برد .
بل كانت شكواه من رمد عينيه ، فهل هذا إلا من قبيل أن تقول لإنسان : إني عطشان ، فيقول لك : نم على السرير ؟ !
ثالثاً : حتى لو كان قد دعا له بإذهاب البرد والحر عنه . . فإنه لا يجب استمرار أثر ذلك حتى الممات ، بل يكفي أن لا يشعر بالبرد أو الحر الذي كان يشعر به حين الدعوة في ذلك اليوم .
ويدل على ذلك : أنهم رووا عن بلال ، قوله : أذَّنت في غداة باردة فخرج رسول الله « صلى الله عليه وآله » فلم ير في المسجد أحداً ، فقال : أين الناس يا بلال ؟ !
قال : منعهم البرد .
فقال : اللهم أذهب عنهم البرد .
قال بلال : فرأيتهم يتروحون ( 4 ) .
فلماذا لم يستمر ذهاب البرد عنهم إلى أن خرجوا من الدنيا ؟ كما يزعمونه بالنسبة لعلي « عليه السلام » ؟ !
أم أن هذه هي القصة الواقعية ، وقد استُفيد منها في قصة خيبر ، لحاجة في أنفسهم ؟ !
وعليه:
يتبين لنا أن الإمام علي وأهل بيته( عليهم السلام) هم من عرفوا معنى الزهد فهم قوم صغرت الدنيا في عينهم حين رأوا الاخرة والتمسك بطاعة الله (عز وجل) واجتناب معصيته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مسند أحمد ج 1 ص 99 والسيرة الحلبية ج 3 ص 36 وسنن ابن ماجة ( ط المكتبة التازية بمصر ) ج 1 ص 56 والخصائص للنسائي ( ط مكتبة التقدم بمصر ) ص 5 والعقد الفريد ( ط مكتبة الجمالية بمصر ) ج 3 ص 94 وكفاية الطالب ( ط الغري ) ص 130 وتاريخ الخميس ج 2 ص 49 ومجمع الزوائد ج 9 ص 122 وتذكرة الخواص ص 25 والرياض النضرة ( ط محمد أمين بمصر ) ج 2 ص 188 والخصائص الكبرى ج 1 ص 252 و 253 وبحار الأنوار ج 21 ص 4 و 20 و 29 عن الخرايج والجرايح ، وعن الخصال ج 2 وعن دلائل النبوة للبيهقي والميزان ( تفسير ) ج 18 ص 296 وتاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 106 وسبل الهدى والرشاد ج 10 ص 214 وكنز العمال ( ط مؤسسة الرسالة ) ج 13 ص 121 عن ابن جرير ، والبزار ، وأحمد ، وابن أبي شيبة ، والطيالسي ، والمستدرك ، والبيهقي ، وغيرهم والمصنف لابن أبي شيبة ج 7 ص 497 ومناقب أمير المؤمنين ج 2 ص 88 و 89 ومجمع البيان ( ط سنة 1421 ه - ) ج 9 ص 155 .
2- السيرة الحلبية ج 3 ص 36 وحلية الأبرار ج 2 ص 246 وتاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 477 وعن ينابيع المودة ج 2 ص 195 وبحار الأنوار ج 40 ص 334 والتذكرة الحمدونية ( ط بيروت ) ص 69 ومختصر حياة الصحابة ( ط دار الإيمان ) ص 253 والأموال ص 284 وقمع الحرص بالزهد والقناعة ص 79 وصفة الصفوة ج 1 ص 122 وحلية الأولياء ج 1 ص 82 وإحقاق الحق ( الملحقات ) ج 8 ص 295 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج 1 ص 284 وكشف الغمة للأربلي ج 1 ص 173 .
3- السيرة الحلبية ج 3 ص 36 و ( ط دار المعرفة ) ج 2 ص 735 .
4- سبل الهدى والرشاد ج 10 ص 214 عن البيهقي ، وأبي نعيم ، والطبراني ومجمع الزوائد للهيثمي ج 1 ص 318 والكامل لابن عدي ج 1 ص 346 والموضوعات لابن الجوزي ج 2 ص 93 وأسد الغابة ج 1 ص 209 وميزان الإعتدال ج 1 ص 289 ولسان الميزان لابن حجر ج 1 ص 482 والبداية والنهاية ج 6
(الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)السيد جعفر مرتضى العاملي, ج19, ص126-127), (بتصرف)