العاصمة العلوية

مقالات وبحوث

العاصمة العلوية

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 20-03-2019

العاصمة العلوية

 

الباحث: علي عباس فاضل

 

يعد اتخاذ المدن عواصم للحكم أمرا مهما لما ينطوي عليه من تغييرات للواقع الديمغرافي والعمراني لتلك المدن، وتهيئتها لتكون جاهزة لاحتضان دار الحكم وما يتعلق به، وما يشتمل عليه هذا التغيير في الواقع المعاشي للمجتمع في تلك المدن، ومن هذه المدن الكوفة التي احتضنت أول انتقال للحكم الإسلامي  من الحجاز إلى العراق، وهذا ما حصل في زمن أمير المؤمنين عليه السلام، واختيار الإمام عليه السلام لهذه المدينة له أسبابه ومدلولاته، ولعل من أسباب الانتقال: هو ما حدث من نكث للبيعة من الناكثين الذين اغوتهم الدنيا بزخرفها حتى اصابهم الجشع في محاولتهم نيل المناصب، فلما لم يحصلوا على مبتغاهم نكثوا بيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وبدأوا بالتحشيد ضده متوجهين إلى البصرة، فقد قابل هذا التحرك تحرك الإمام عليه السلام نحوهم لكنه اتخذ الكوفة ليجهز جيشه ويجمع أنصاره لمواجهة هؤلاء النفر الضال.

 

وتتميز الكوفة بمجتمع يوالي أهل البيت عليهم السلام، وهي مقر التشيع والمولاة، إذ )إن الكوفة كانت مهدًا للشيعة، وموطنًا من مواطن العلويين، وقد أعلنت إخلاصها لأهل البيت {عليه السلام}،  في كثير من المواطن)([1])، و وصفت بأنها حرم أمير المؤمنين عليه السلام، جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام : ( مكة حرم الله ، والمدينة حرم رسول الله ، والكوفة حرمي )  وفي رواية أخرى: ( الكوفة حرم الله وحرم رسوله وحرم أمير المؤمنين ) وروي أيضًا: ( مكة حرم الله ، والمدينة حرم محمد رسول الله ، والكوفة حرم علي بن أبي طالب )([2]).

 

وقد وصف أمير المؤمنين عليه السلام أهل الكوفة بالأنصار حين كتب لهم كتابًا يحثهم على المسير إلى البصرة فقال: (مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، جَبْهَةِ الأنْصَارِ وَسَنَامِ الْعَرَبِ)([3])، فقد شبههم بالأنصار لما فيهم من كرم، وبسنام العرب لما فيهم من رفعة وقوة.

 

أما قدسية المدينة فقد ذكر أمير المؤمنين أنها أول بقعة يعبد عليها الله فقال: (أول بقعة عُبِدَ اللـه عليها ظهر الكوفة لما أمر اللـه الملائكة أن يسجدوا لآدم سجدوا على ظهر الكوفة)([4]).

 

فهذا يدل على مكانة الكوفة القدسية، فقد خصها الله بعنايته، وشملها بلطفه، فجعلها أول مكان في الأرض يُعبد فيه.

 

ومما تجدر الإشارة إليه أن أمير المؤمنين عليه السلام قد بشَّر بحفظ هذه المدينة وأن الله يحفظها ممن يريد بها سوءًا فيقول: (كَأَنَّي بِكِ يَا كُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ الأدَيمِ الْعُكَاظِيِّ، تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ، وَتُرْكَبِينَ بِالزَّلاَزِلِ، وَإِنَّي لاَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءا إِلاَّ ابْتَلاَهُ اللهُ بِشَاغِل، وَرَمَاهُ بِقَاتِل)([5])!.

 

وقد شملت العناية الربانية هذه المدينة فجعل فيها مسجدا صلى فيه أنبياء الله ورسله وأوصياؤه، وله الفضل على البقاع الأخرى، فصار قرين البيت الحرام والمسجد النبوي في الفضل والقداسة، فقد (جاء رجل إلى أمير المؤمنين {عليه السلام} وهو في مسجد الكوفة فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فرد عليه فقال: جعلت فداك إني عزمت على المضي إلى المسجد الأقصى وقد اتيت لأسلم عليك وأودعك فقال: أي شيء تريد بذلك، قال: الفضل جعلت فداك، قال: فبع راحلتك وكل زادك وصل في هذا المسجد فان الصلاة المكتوبة فيه حجة مبرورة، والنافلة عمرة مبرورة، والبركة فيه اثنا عشر ميلا يمينه رحمة، ويساره مكر وفي وسطه عين من دهن، وعين من لبن، وعين من ماء شراب للمؤمنين، ومنه سارت سفينة نوح وكان فيه نسر ويغوث ويعوق، وصلى فيه سبعون نبيا، وسبعون وصيا انا آخرهم وقال ويده على صدره: ما دعا فيه مكروب بمسألة في حاجة من الحوائج الا اجابه الله وفرج عنه كربه)([6]).

 

وقد عارض جمع من الناس نقل عاصمة الدولة الإسلامية من المدينة إلى الكوفة ولم يؤيدوه، لكن أمير المؤمنين عليه السلام رأى المصلحة في ذلك لما رأى من تشتت مجتمع المدينة وضعفه وموقعها الذي يعد يصلح ليكون مركزًا لإدارة الدولة، فقد كان يرى أن المدينة لم تعد تمتلك المقومات التي تملكها بعض الأمصار في تلك المرحلة.

 

والخلاصة: كان اتخاذ أمير المؤمنين عليه السلام للكوفة مقرا لحكومته لما وجده فيها من مؤهلات تجعلها عاصمة الدولة العلوية ومركزا للنور العلوي، ففيها الموالون له والمحبون لذريته، وكذلك فاختياره له لتبقى على مر العصور مركزا للدولة الإسلامية، وعاصمة لدولة صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه.

 

الهوامش:

[1] حياة الامام الحسين باقر شريف القرشي 3/12.

[2] مستند الشيعة، المحقق النراقي: 8/ 513.

[3] نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 363.

[4] مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي: 4/ 484.

[5] نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 86.

[6] فضل الكوفة ومساجدها، محمد بن جعفر المشهدي: 29- 30.

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.3231 Seconds