إنَّ المتأمل في حياة علي ابن أبي طالب يعجز عن قراءتها كما هي ، والحق أنَّ كل ما كتب عن هذه الشخصية مهما بلغت نفاسته ودرجة اتقانه العلمي لا يعدو أن يكون مكرسا صغيرا أمام نضج الشخصية المقروءة ، بل لا نغالي إن قلنا إنَّ علي ابن أبي طالب كتاب لم يقرأ بعد؛ لأن الإناء القليل مهما اجتهد لا يسع بحرا، فلا جدال أن الإمام علي ( عليه السلام) جسد الإسلام بكل حركاته وسكناته، بكل أقواله وأفعاله، فهو تجسيد وتمثيل للحقيقة المحمدية العظمى، تلك الشجرة الطيبة التي نبتت في أرض جرداء، لا ماء فيها ولا كلاء، أرض سقيمة وعرة من مبادئ الدين، نبتت فيها وأثمرت ثمرات قيّمة ثمينة لا تستغنى عنها الإنسانية مهما بلغت، وها هو الإمام علي( عليه السلام) فرع من ذلك الأصل يمثله كما هو وامتداد له كما يحق، فإنه وليده وأخوه و وزيره ونفسه المقدسة وخليفته، ولقد بلغ من تمثل أصله القمة وهو أمة مستقلة ليس له في الأمة مثيل ولا لهم فوقه بعد نبيها دليل([1]).
ولنقف عند أهم محطات حياته عليه السلام لنرتشف عبق الإسلام النابض بمعنى الإنسانية والإيثار:
لقد أبصر نور الحياة في بيت الله سبحانه، واستقبل الدنيا ساجدا ناطقا بالشهادتين حاملا علوم الأولين والآخرين([2])، واستقبله النبي الكريم استقبال الأخ لأخيه الناصر المساند وأي مساندة ترنو الى قلب الواقع من جاهلية عمياء إلى أُمَّة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، إلا فئة الضلال التي عشعش الشيطان في صدورهم، قد خُط اسميهما في العرش نبي و وصي مدخران لهداية الناس([3]).
واستمر في حياته ملازما لرسول الله، ومجاهدا بين يديه فكان رسوله إذا انتدب، وخليفته إذا رحل، ولوائه إذا قاتل، وسيفه إذا ضرب، ولم يفترقا لا في سلم ولا في حرب، إذ شارك في جميع المعارك التي خاضها الرسول صلى الله عليه وآله دفاعا عن الإسلام ما خلا غزوة تبوك إذ خلفه على المدينة التي كانت تضطرم بنار الفتن التي أججها المنافقون فقال له صلى الله عليه وآله: (( أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي))([4]).
وقد سار خط الوصاية ملازما لخط النبوة منذ الإعلان الأول للإسلام في الحادثة المعروفة بحديث الدار، إذ امتزج ذلك الإعلان بمراسيم اعجازية نتج عنها بيان النبي للأمة الإسلامية ووصيه من بعده، فقال لهم: ((يا بني عبد المطلب ، إن الله بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال عز وجل:(وانذر عشيرتك الأقربين)([5]) وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون بهما من النار: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به ، يكن أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي))([6])، فلم يجب أحد منهم . فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : فقمت بين يديه من بينهم – وأنا إذ ذاك أصغرهم سنا، وأحمشهم([7])ساقا ، وأرمضهم([8]) عينا - فقلت : أنا - يا رسول الله - أؤازرك على هذا الأمر . فقال: اجلس ، ثم أعاد القول على القوم ثانية فاصمتوا ، وقمت فقلت مثل مقالتي الأولى ، فقال: اجلس . ثم أعاد على القوم مقالته ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقلت : أنا أؤازرك - يا رسول الله على هذا الأمر ، فقال : اجلس ، فأنت أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي. فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: يا أبا طالب ، ليهنك، اليوم إن دخلت في دين ابن أخيك ، فقد جعل ابنك أميرا عليك([9]).
ثم جاءت حجة الوداع لتحتضن تتويج الإمام علي عليه السلام إماما وخليفة للمسلمين وعلى ذلك أخذ النبي صلى الله عليه وآله بيعتهم له عليه السلام([10])، واستمرت هذه الملازمة الشريفة بين النبي والوصي إلى أن فاضت روح رسول الله الطاهرة وهو في حجر وصيه عليه السلام، لتبدأ مهمة الوصي في تطبيب الدين وصيانة الإسلام وقد كلفه الكثير الكثير، إذ سلب حقه، وحرقت باب داره، وضربت زوجته خير النساء، وهو ينظر الى المصلحة العامة في حفظ الدين على حساب حقه في الخلافة قائلا: ((أَمَا وَالله لَقَدْ تَقَمَّصَها فُلانٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّيَ مِنهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَا، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَة عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فيهَا الكَبيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ. فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذىً، وَفي الحَلْقِ شَجاً، أرى تُرَاثي نَهْباً، حَتَّى مَضَى الاَْوَّلُ لِسَبِيلِهِ، فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فلان بَعْدَهُ فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِه ، إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِه لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا ، فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا ، ويَخْشُنُ مَسُّهَا ويَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا والِاعْتِذَارُ مِنْهَا ، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ ، إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ ، فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّه بِخَبْطٍ وشِمَاسٍ وتَلَوُّنٍ واعْتِرَاضٍ ، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وشِدَّةِ الْمِحْنَةِ حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِه ، جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّه ولِلشُّورَى ، مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِه النَّظَائِرِ ، لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وطِرْتُ إِذْ طَارُوا ، فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِه ، ومَالَ الآخَرُ لِصِهْرِه مَعَ هَنٍ وهَنٍ إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْه ، بَيْنَ نَثِيلِه ومُعْتَلَفِه ، وقَامَ مَعَه بَنُو أَبِيه يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّه ، خِضْمَةَ الإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ ، إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْه فَتْلُه وأَجْهَزَ عَلَيْه عَمَلُه ، وكَبَتْ بِه بِطْنَتُه))([11])
إلى أن فاق الناس من سباتهم ومحكهم ظلم الخلفاء التفوا حول الإمام علي عليه السلام يطلبون مبايعته بالخلافة، ولكن يد الغدر تتنفس بينهم، ولقد صور عليه السلام تلك المواقف بكلام كأنك – إن قرأته- تعيشها، بقوله عليه السلام: (( فَمَا رَاعَنِي إِلَّا والنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ ، إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ ، فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ ، ومَرَقَتْ أُخْرَى وقَسَطَ آخَرُونَ ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّه سُبْحَانَه يَقُولُ ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ ، لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ ولا فَساداً ، والْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ، بَلَى واللَّه لَقَدْ سَمِعُوهَا ووَعَوْهَا ، ولَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ ورَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ ، لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ، ومَا أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ ، أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ ، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا - ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا - ولأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِه أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ))([12]).
فما ترجو من أمة تمردت على وصايا النبي الأكرم وخانت عهده بعد أن غمضت عيناه وتراب قبره لم يجف يتجاذبون التهديد والاغراء لكسب بيعة الناس لهم ضاربين صفحا عن مَن بهم الولاية والخلافة ليسلكوا طريقا خالف تعاليم الإسلام وحتى إرادة السماء، فسلام عليك يا أمير المؤمنين يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا.
الهوامش:
([1]) ينظر: علي والحاكمون: 8.
([2]) ينظر: مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب: 2/ 22.
([3]) ينظر: بحار الأنوار: 35/ 15.
([4]) فضائل الصحابة، أحمد بن حنبل: 2/ 566، وينظر: الهداية، الشيخ الصدوق: 162.
([5]) الشعراء: 214.
([6]) الإرشاد، الشيخ المفيد(ت: 413هـ): 1/ 49، وينظر: وعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطوسي(ت: 548هـ)، : 1/ 322، و كشف اليقين، العلامة الحلي(ت: 726هـ): 258، والغدير، الشيخ الأميني(ت: 1392هـ: 2/ 282.
([7]) حمش: رجلٌ أَحْمَشُ الساقين: دقيقهما. ينظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: 3/ 1002.
([8]) الرمض : وسخ يجتمع في مجرى الدمع ، ينظر: الصحاح :3 / 1042 .
([9]) ينظر: الإرشاد: 1/ 50، وأعيان الشيعة: 1/ 231.
([10]) ينظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: 221.
([11]) نهج البلاغة، تحقيق: د. صبحي الصالح: 48.
([12]) نهج البلاغة، تحقيق: د. صبحي الصالح: 48.