خُطَى الخزاعي
كان مستحوذًا على اهتمام الحاكم، فصار الاهتمام أرقًا وقلقًا ثم هاجسًا ورعبًا، لم يستطع الخلاص من الشعور باللاقيمة إزاءَ ذلك الأُس المتين والطود الشامخ، بعدما أصبحت تنتابه نوباتُ مقارنة قهرية متكررة مع كل حدث، فترتسم في نهاياتها ملامحُ بشعةٌ لهزيمة نكراء، فيصرخ بلسان مِعوَج معمِّيًّا على تلك الحقيقة، جاعلًا دونها كأس تَرنُح مُعطِّلةً لبقيةَ عقل، ومدخلةً إياها في طور سبات، لستُ مهزومًا؛ بل إنِّي أنا المنتصر الكبير، قطعًا أنا مَن استوى على العرش الوفير، أنا مَن تظله أعمدةُ صرحٍ عانقت السحاب متطاولةً، وأسبابَ السماء، أينما وليتُ وجهيَ فثَمَّ جيوش العبيد وقوافل الإماء، أنا إن غضبت أمتُّ وإن رضيت أحييت، أنا إن أعطيت أغنيت وإن أمسكت أفقرت، أنا من أوتي من كل شيءٍ سببًا، أنا المستعبِد المتسرِق، أنا المجد الرفيع، أنا الحاكم المطلق... وماهي إلّا لحظات وتنحسر تلك التُرهات، فتقدِم متثاقلة لحظةُ استفاقة العقل المحتضر، متحررة من أسباب العُطل والعربدة، فيتجلى شبحٌ هزيلٌ لضمير قد أشقته أطماعٌ ومآربٌ، صارخًا في زوايا خربة سجن النفس الأمارة بالسوء، مه أيُّها الوضيع اسكت ياهارون، عن إيِّ مجدٍ تتكلم؟ وإلى أيِّ نصرٍ ترمي؟ بل أيِّ ملك تَدّعي؟ حقق النظر فهل ترى في عرشك الوديع إلّا سَبُعًا نَهِمًا دأبه التأهب للانقضاض والتهام من يعتليه؟ انظر ورائك فهل جدت في أسلافك إلّا طعمةً سائغة بين أضراس هذا الكرسي المغتصَب؟ وعن أيِّ صرحٍ تتكلم، أصغ السمع، فهل تسمع إلّا أنينًا وصراخًا لأرواح بريئة جَعلتَ من جماجمها طوب بناء؟ دقّق النظر أَلا ترى أكفَها لم تزل منذ قُتلت مرفوعةً تدعو عليك بالويل والثبور؟ استفق أيُّها المعتوه وتّجرد من أخبية الوهم والتزويق، لا تصدِّق هُراءَ المتزلفين، ودَعَك من تملقَ المتنطعين، أتُراك لم تعرف معنى الملك بعد؟ أم لم تفقه حقيقة المجد إلى الآن؟ قم بنا أيُّها المغتر إلى حيث من يحكيهما، أنظر متبصرًا إلى ذلك النور المتمرد على طوامير الأرض، كيف يخترقها متعاليًا فيتصل بعرش السماء، قل أي قَدْر يستبقيه ذلك العُلا لصرحك البالي إلّا من الدعاء عليك، تعال فادلك على حق الملك، ليس بعيدًا ولست تجهله... انظره راهبًا في زاوية سجود تلك الجبهة التي دار حولها الوجود مُتَمَلَّكًا مأسورًا، فراقه أن يأتم بمحرابها روحًا وجمادًا مسبِّحًا ذاكرًا، عن العطاء تتحدث؟ فشتان بين ما تحسبه عطاءً، وبين ما ينساب من تلك اليدين اللتين يُخَيَّل إليك أنَّهما مقيّدتين، كلا؛ بل بهما طويت الأفلاك فتحكما بدورانها، وَوِكِّلَتا بالأرزاق فزانتا مقاديرها، إن شاءتا عطاءً فهي الجنان العريضة وإن أمسكتا استحقاقًا فالنار المتأججة... كانت تلك الكلمات موجعة للحدِّ الذي جعل من تلك النفس المستعلية المستحكمة أن تنتفض منهيةً طور الاستفاقة هذا، إذ لم تُطِق سماع المزيد من كلمات ذلك الصوت الخائر، فقررت اسكاته إلى الأبد لتنهي معه هاجس الشعور بالدنو والحقارة، فأحكمت قبضتها مجهزة عليه، لتلقيه بعد ذلك من بين قضبان أسرها جثة على قارعة الطريق، فيلفظ آخر الأنفاس ببصر يرنو صوب الجسر حيث موكب الفجيعة والنادبين.