عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين..
الإمام الكاظم (عليه السلام)، هو موسى بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب (عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام)، ثقة صدوق إمام من أئمَّة المسلمين([1])، وكان يُلقَّب بالعبد الصالح لعبادته واجتهاده، وقد روي كثير من الشواهد التي حكت كثرة عبادته وتهجُّده، ومن ذلك ما قيل في وصف دخوله (عليه السلام) إلى مسجد رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) فقيل إنَّه سجد سجدة في أوَّل الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: عظم الذنب عندي فليحسن العفو من عندك، يا أهل التقوى، ويا أهل المغفرة، فجعل يرددها حتَّى أصبح. وكان سخيًّا كريمًا مسامحًا، وكان يبلغه، عن الرجل أنَّه يؤذيه، فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار، وكان يصرُّ الصرر: ثلاث مائة دينار، وأربع مائة دينار، ومائتي دينار، ثمَّ يقسمها بالمدينة، حتَّى صار ذلك مثلًا بين النَّاس (صرر موسى بن جعفر)؛ لأنَّها إذا وصلت الإنسان منها صرَّة فقد استغنى([2]).
ومن شواهد كرمه ما ورد عن ((محمد بن عبد الله البكري، قَالَ: قدمت المدينة أطلب بها دينًا، فأعياني، فقلت: لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) فشكوت ذلك إليه، فأتيته بنقمي في ضيعته، فخرج إليَّ ومعه غلام له، معه منسف فيه قديد مجزع ليس معه غيره، فأكل وأكلت معه، ثم سألني، عن حاجتي، فذكرت له قصتي، فدخل، فلم يقم إلَّا يسيرًا حتَّى خرج إليَّ، فقال لغلامه: اذهب، ثُمَّ مدَّ يده إليَّ، فدفع إليَّ صرةً فيها ثلاث مائة دينار))([3]) .
وممَّا جاء في كرمه وجوده ما ورد عن عِيْسَى بن مُحَمَّدِ بنِ مُغِيْثٍ القُرَشِيُّ قال: ((زَرَعْتُ بِطِّيخًا وَقِثَّاءً وَقَرْعًا، فِي مَوْضِعٍ بِالْجَوَّانِيَةِ عَلَى بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ عِظَامٍ، فَلَمَّا قَرُبَ الْخَيْرُ، وَاسْتَوَى الزَّرْعُ، بَيَّتَنِي الْجَرَادُ، فَأَتَى عَلَى الزَّرْعِ كُلِّهِ، وَكُنْتُ غَرِمْتُ عَلَى الزَّرْعِ وَفِي ثَمَنِ جَمَلَيْنِ مِائَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ، طَلَعَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: أَيْشِ حَالُكَ؟ فَقُلْتُ: أَصْبَحْتُ كَالصَّرِيمِ، بَيَّتَنِي الْجَرَادُ فَأَكَلَ زَرْعِي، قَالَ: وَكَمْ غَرِمْتَ فِيهِ؟ قُلْتُ: مِائَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا مَعَ ثَمَنِ الْجَمَلَيْنِ، فَقَالَ: يَا عَرَفَةُ، زِنْ لأَبِي الْمُغِيثِ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِينَارًا، نُرْبِحُكَ ثَلاثِينَ دِينَارًا وَالْجَمَلَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا مُبَارَكُ، ادخل وادع لِي فِيهَا، فَدَخَلَ وَدَعَا))([4]) .
وكان حليمًا متسامحًا، وممَّا ورد في حلمه وسماحته: أَنَّ رَجُلاً مِنْ آلِ عُمَرَ بن الخطاب كَانَ بِالمَدِيْنَةِ يُؤذِيْهِ، وَيَشتُمُ عَلِيّاً، وَكَانَ قَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ حَاشِيَتِه: دَعْنَا نَقْتُلْهُ، فَنَهَاهُم، وَزَجَرَهُم، وَذُكِرَ لَهُ: أَنَّ العُمَرِيَّ يَزْدَرِعُ بِأَرْضٍ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ فِي مَزرَعَتِه، فَوَجَدَه، فَدَخَلَ بِحِمَارِه، فَصَاحَ العُمَرِيُّ: لاَ تُوَطِّئْ زَرعَنَا، فَوَطِئَ بِالحِمَارِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ عِنْدَه، وَضَاحَكَه، وَقَالَ: كَمْ غَرِمتَ فِي زَرعِكَ هَذَا؟ قَالَ: مائَةُ دِيْنَارٍ، قَالَ: فَكَم تَرجُو؟ قَالَ: لاَ أَعْلَمُ الغَيبَ، وَأَرْجُو أَنْ يَجِيْئَنِي مائَتَا دِيْنَارٍ، فَأَعْطَاهُ ثَلاَثَ مائَةِ دِيْنَارٍ، وَقَالَ: هَذَا زَرعُكَ عَلَى حَالِه، فَقَامَ العُمَرِيُّ، فَقَبَّلَ رَأْسَه، وَقَالَ: اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاَتِه، وَجَعَلَ يَدْعُو لَهُ كُلَّ وَقْتٍ، فَقَالَ أَبُو الحَسَنِ لِخَاصَّتِه الَّذِيْنَ أَرَادُوا قَتْلَ العُمَرِيِّ: أَيُّمَا هُوَ خَيْرٌ، مَا أَرَدْتُم، أَوْ مَا أَرَدْتُ أَنْ أُصلِحَ أَمرَهُ بِهَذَا المِقْدَارِ؟ وهَذَا غَايَةُ الحِلْمِ وَالسَّمَاحَةِ([5]) .
وقد حبسه المهدي العباسي مدَّةً من الزمن ثمَّ أطلقه، ومن بعد ذلك جاء هارون العبَّاسي فضيق على الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فصحبه معه من المدينة المنورة إلى بغداد ليسجنه بها، وقد أوكل عليه في سجنه السندي بن شاهك، وكانت له أُخت فسألته أن تتولَّى حبس الإمام (عليه السلام)، وكانت ذات دين، فقبل أخوها السندي، فكانت تلي خدمته، وممَّا نقلت في وصف حياة الإمام (عليه السلام) في سجنه أنَّها قالت: كان إذا صلى العتمة حمد الله ومجده ودعاه، فلم يزل كذلك حتَّى يزول الليل، فإذا زال الليل قام يصلي حتَّى يصلي الصبح، ثم يذكر قليلًا حتَّى تطلع الشمس، ثمَّ يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثمَّ يتهيأ ويستاك ويأكل، ثمَّ يرقد إلى قبل الزوال، ثمَّ يتوضأ ويصلي حتَّى يصلي العصر، ثمَّ يذكر في القبلة حتَّى يصلي المغرب، ثمَّ يصلي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه . وكانت أخت السندي إذا نظرت إليه، قالت: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل([6]) . وهو في هذا الحال أرسل إلى هارون العبَّاسي رسالةً جاء فيها: ((إِنَّهُ لَنْ يَنْقَضِيَ عَنِّي يَوْمٌ مِنَ البَلاَءِ، إِلاَّ انْقَضَى عَنْكَ مَعَهُ يَوْمٌ مِنَ الرَّخَاءِ، حَتَّى نُفضِيَ جَمِيْعاً إِلَى يَوْمٍ لَيْسَ لَهُ انْقِضَاءٌ، يَخسَرُ فِيْهِ المُبْطِلُوْنَ))([7])، فلم يكن يهاب سلطة فرعون زمانه ولا حاشيته .
وكانت ولادته يوم الثلاثاء قبل طلوع الفجر سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل: سنة ثمان وعشرين بالمدينة، وتوفي لخمس بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة، وقيل سنة ست وثمانين ببغداد، وقد استشهد مسمومًا في سجنه (صلوات الله عليه أبدًا)، وقبره هناك مشهور يزار، وعليه مشهد عظيم فيه قناديل الذهب والفضة وأنواع الآلات والفرش ما لا يحد، وهو في الجانب الغربي([8]) .
وهكذا مضى الإمام (عليه السلام) مظلومًا مسمومًا شهيدًا...
الهوامش:
([1]) ينظر: الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم (ت: 327هـ): 8/139 ، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان البرمكي (ت: 681هـ): 5/308 .
([2]) تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (ت: 463هـ): 15/14 .
([3]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال، يوسف بن عبد الرحمن المزي (ت: 742هـ): 29/45 .
([4]) تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (المتوفى: 463هـ): 15/14 .
([5]) ينظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (ت: 748هـ): 6/272 .
([6]) تاريخ بغداد: 15/14 ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 29/50 ، سير أعلام النبلاء: 6/273.
([7]) تاريخ بغداد: 15/14 ، سير أعلام النبلاء: 6/273 .
([8]) ينظر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان البرمكي (ت: 681هـ): 5/310 ، تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام: 4/984 .