الأثر التربوي للأجل في نهج البلاغة

مقالات وبحوث

الأثر التربوي للأجل في نهج البلاغة

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 13-06-2019

عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسَّلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
يعتمد المصلحون والحكماء على وسائل وأساليب يُحركون به عواطف جمهورهم بغية إقناعهم بأفكارهم وأهدافهم التي يسعون لتحقيقها، وكان الأجل جزءًا من الأساليب الرائجة التي استند عليها المصلحون الدِّينيون في تزهيد النَّاس من الدنيا بملذاتها الفانية الزائلة، والحق أنَّ الأجل خير أداة رادعة للإنسان، وخير سبيل لكسر جُموح نفسه التي لا تقف شهواتها عند حد.
ومن أولئك المصلحين الذين اعتمدوا (الأجل) بوصفه نسقًا تربويًّا يهذِّب النفس الإنسانية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، إذ اتَّخذ منه وسيلةً تربويَّةً استهدف بها جمهوره، الذي كان جزءًا كبيرًا منه متهالكًا في حبِّ الدُّنيا، وقد ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) مفردة (الأجل) كثيرًا في أثناء خطبه ومواعظه مفسِّرًا إيَّاها تارةً، ومذكِّرًا بها تارةً أُخرى، ومن جملة ما قال فيها: ((مِسْكِينٌ ابْنُ آدَمَ: مَكْتُومُ الأجَلِ، مَكْنُونُ الْعِلَلِ، مَحْفُوظُ الْعَمَلِ، تَؤْلِمُهُ الْبَقَّةُ، وَتَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ، وَتُنْتِنُهُ الْعَرْقَةُ))([1])، فالخاصيَّة الأولى للأجل هي الخفاء والكتمان، بحيث لا يعلم الإنسان متى يكون أجله الذي يرحل به عن عالم الدُّنيا، ومن هنا تأتي القيمة التربوية للأجل؛ إذ إنَّه يُحتِّم على الإنسان أن يكون في رقابة تامَّة لنفسه وأفعاله، لأنَّه لا يعلم متى سيأتيه الأجل وعلى أيِّ حالٍ وبأيِّ وسيلة، وعندما ينزل بالإنسان فإنَّه سيقطع وجوده من الدُّنيا بلا رجعةٍ، وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((فَبَادِرُوا الْعَمَلَ، وَخَافُوا بَغْتَةَ الأجَلِ، فَإِنَّهُ لاَ يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ، مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ، وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوُمَ رَجْعَتُهُ. الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي، وَالْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي))
وهنا يوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن يخشى النَّاس بغتة الأجل، لأنَّه يأتي على غير موعدٍ، يباغت الإنسان من دون تحضيرٍ مسبق، ومن هنا ينشأ الخطر؛ لأنَّ الإنسان إذا لم يكن مستعدًا لاستقبال الأجل فإنَّه سيعرِّض نفسه لأهوال وأهوال في القيامة .
ثمَّ يؤكِّد أمير المؤمنين (عليه السلام) أن لا مفرَّ من الأجل ولا مهرب من ملاقاته، ولو فكَّر الإنسان في الهرب منه فإنَّه سيقع فيه، وفي ذلك يقول (عليه السلام): ((أَيُّهَا النَّاسُ، كُلُّ امْرِئ لاَق بِمَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ، وَالأجَلُ مَسَاقُ النَّفْسِ، وَالْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ))([2]).
فالأجل طريق النَّفس التي لا تخرج منه، والمساق الذي لا تفارقه، والمصير الذي لا تخرج عن نهايته، ولذلك يجب على الإنسان أن يُسابق أجله بالتوبة والعمل الصالح، وأن يسعى جاهدًا في تربية روحه بالعبادة والتقوى، قال (عليه السلام): ((فَبَادِرُوا الْمَعَادَ، وَسَابِقُوا الآجَالَ، فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الأمَلُ، وَيَرْهَقَهُمُ الأجَلُ، وَيُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ، فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْهِ الرَّجْعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَأَنْتُمْ بَنُو سَبِيل، عَلَى سَفَر مِنْ دَار))([3])، ولو أنَّ الإنسان آمن بحتميَّة الأجل وعمل على أساس ذلك الإيمان فإنَّه سيتحول به الأمر إلى المراقبة الشديدة واللصيقة لكلِّ أفعاله، بحيث يتحول الأجل إلى حارس يحرس الإنسان من آفات الزَّلات ومعضلات المعاصي، قال (عليه السلام): ((كَفَى بِالأَجَلِ حَارِسًا))([4])، وإذا أعتقد الإنسان بحراسة الأجل فإنَّه سيحدُّ من غروره ويُقيِّد آماله، قال (عليه السلام): ((لَوْ رَأَى الْعَبْدُ الأجَلَ وَمَسِيرَهُ لأبْغَضَ الأمَلَ وَغُرُورَهُ))([5])، أمَّا لو أنَّ الإنسان استقام على الطريقة المثلى، واعتقد بالله تعالى حقَّ اعتقاده فإنَّه لا يحتاج إلى رادعٍ مثل الأجل؛ بل سيحتاج الأجل بصفةٍ أُخرى، وهي استقرار الروح في الجسد؛ لأنَّ الأجل سيمثِّل له لقاء الله تعالى حبيبه الذي تهفو روحه شوقًا إليه، وكذلك يمثِّل اللحظة التي يرى فيها ما أعدَّ الله تعالى له من حسن الثواب، وفي ذلك يقول (عليه السلام): ((لَوْلاَ الأجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْن، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ))([6])، وهؤلاء هم المتَّقون الذين جعلوا الله تعالى نصب أعينهم فكانت أعمالهم كُلَّها له تعالى، بحيث أصبح الأجل عامل اطمئنان لهم بأنَّهم سيلقون الله تعالى في قابل الأيام، فكان ذلك عندهم أداة تسليةٍ لشوقهم بوصفه موعدًا للقاء...
جعلنا الله تعالى وإيَّاكم ممَّن يتَّقي الله تعالى أناء الليل وأطراف النهار.
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، تحقيق: صبحي الصالح: 550.
([2]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، تحقيق: صبحي الصالح: 207.
([3]) المصدر نفسه: 207.
([4]) المصدر نفسه: 529.
([5]) المصدر نفسه: 534.
([6]) المصدر نفسه: 734.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2880 Seconds