بقلم: أ. د. ختام راهي الحسناوي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
لقد كانت معارضة بعض الصحابة لبيعة أبي بكر معارضة مبدئية تعبدية وليست معارضة عاطفية اقتصرت على محبة علي بل نادت بأحقيته استناداً إلى أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) الدالة على فضل أهل البيت (عليهم السلام) وضرورة التمسك بحبلهم وكونهم عدل القرآن الكريم، وتلك الأحاديث التي خصت علياً نفسه بالمناقب والفضائل.
وفي ضوء ذلك لابد أن تتوقع الخلافة القائمة أن نشاط هذه الفئة في تبليغ أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في آل البيت عامة، وعلي خاصة لن تتوقف([1])، لاسيما تلك الأحاديث التي تحمل مفاهيم سياسية، ففي بعض الأحاديث النبوية تجسيد لمضمون الحكومة بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وتذكير بحقوق أهل البيت ومنزلتهم([2]) ولا شك أن نشرها سيؤدي إلى تكوين رأي عام يجرد تلك الخلافة من شرعيتها، فأقدمت الخلافة–بجرأة–على تبني مشروع منع رواية الحديث النبوي، فقد روى الذهبي: ((أن الخليفة أبا بكر جمع الناس بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم، فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله، وحرّموا حرامه))([3]) وأتم ذلك بإجراء صارم باتجاه تدوين السُنّة، تمثل بإتلاف المدونات([4])، وقد استمر النهي عن الرواية والتدوين في عهد عمر بن الخطاب([5])، ودعى الناس إلى الاطلاع على حصيلة مدوناتهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ((فلما أتوه بها أمر بتحريقها))([6]).
وبعث إلى الأمصار الإسلامية: ((مَنْ كان عنده شيء فليمحه))([7]) وفي ضوء ذلك نفهم النص الذي أورده الخطيب البغدادي بسنده، عن عبد الرحمن ابن الأسود عن ابيه قال([8]): ((جاء علقمة بكتاب من مكة–أو اليمن–صحيفة فيها أحاديث في أهل بيت النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلم فاستأذنّا على عبد الله [ابن مسعود] فدخلنا عليه، قال: فدفعنا إليه الصحيفة. قال: فدعا الجارية، ثم دعا بطست فيها ماء. فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن، أنظر فيها، فإن فيها أحاديث حساناً فجعل يميثها فيها، ويقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ}([9]) القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها ما سواه)).
إن الصحيفة التي تعرضت للإبادة في هذا الحديث واضحة المحتوى والموضوع وهو يرتبط بأهل البيت، وكأن الراوي اعتنى بهذه النقطة، فاستعمل عطف البيان للتأكيد على المراد بأهل البيت، وليُلفت نظر عبد الله بن مسعود إلى أنهم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) لكنه لم يُعر اهتماماً، وأباد الصحيفة محاولاً أن يوهم أن القرآن يُغني عما فيها!! مع أنه كان مخطئاً في فَرضه أن الاشتغال بالحديث هو اشتغال بما سوى القرآن، لأن الحديث لا ينفصل عن القرآن، بل هو يعضده. ولو دققنا النظر في هذا الحديث، وجدنا أن محتواه هو الذي كان يضر السلطة الحاكمة، وينافي سياستها القائمة، لأن الأحاديث النبوية الواردة في أهل البيت، إنما تدل على فضلهم وتؤكد على خلافتهم عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وتجعلهم قرناء للقرآن ليكونوا هم وهو خليفتين له، من بعده([10]). وأما سائر أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) سواء في الأحكام والفرائض أم في الآداب والسنن، فإنها لم تكن لتمس كيان السلطة بشيء؛ ولذا لم يشملها المنع بنحو شديد، قال عمر: ((أقلّوا الرواية عن رسول الله، إلاّ فيما يُعمل به))([11]). وإنما خُص أهل البيت (عليهم السلام) بذلك لأنهم كانوا زعماء المعارضة السياسية الذين بقوا في الساحة، وكان بعض المسلمين يتطلعون إلى خلافتهم، وحجتهم في ذلك الأحاديث النبوية التي تبلغ اليوم–رغم بعد الزمن وعمليات المنع والإبادة والتحريف–الآلاف، فكيف بها في تلك الأيام وهي ماثلة لرواتها من الصحابة بمنازلها ومناسباتها وأسبابها والنبي (صلى الله عليه وآله) يُحدثهم بما لأهل بيته من فضلٍ ومنزلة ومقام؟ فلو كان مسموحاً بتداولها والتحديث بها وكتابتها لكان لذلك تأثير سياسي عميق على نظام الحكم، بلا ريب؛ فكان المنع الرسمي للحديث أفضل تدبير للوقوف بوجه ذلك([12])[13].
الهوامش:
([1]) إن النصوص النبوية الدالة على وجوب تبليغ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونشره وأدائه إلى الآخرين متضافرة منها: قوله (صلى الله عليه وآله): ((نضّر اللهُ إمرءاً سمعَ مقالتي فبلّغها، فرُبَّ حامل فقه غير فقيه. ورُبَّ حامل فقه إلى مَنْ هو أفقه منه)). ابن ماجة، السنن، ص48 باب 18، مَن بلغ علماً، ح230، الحاكم النيسابوري، المستدرك، 1/186، كتاب العلم، ح296.
وقوله (صلى الله عليه وآله): ((عليكم بكتاب الله وسترجعون إلى قوم يحبون الحديث عني... فمن حفظ شيئاً فليُحدّث به، ومَنْ قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)). وقال أبو موسى الغافقي: هذا آخر ما عهد إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله).
الحاكم النيسابوري، المستدرك، 1/214، كتاب العلم، ح389.
([2]) عرض الإمام علي الأحقية بخلافة النبي بركنين وهما: المخول الشرعي بقوله (صلى الله عليه وآله)في الحديث المتفق عليه: ((أني تارك فيكم خليفتين، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض–أو ما بين السماء إلى الأرض–وعترتي أهل بيتي، حتى يردا عليّ الحوض)). ابن حنبل، المسند، 5/181؛ الترمذي، السنن، ص992، باب 32، ح3797. والمخول الواقعي المتمثل: بأهلية أهل البيت (عليهم السلام) علي وأبنائه لتبليغ الرسالة واتمام العدات، فهم ممن لا يقاس بهم أحد، وعندهم أبواب الحُكم وضياء الأمر كما يقول الإمام علي، نهج البلاغة، ص35، خ2، ص216، خ119؛ محمد، المعارضة السياسية، ص28–29؛ عبد الحميد، تاريخ الإسلام، ص486–488.
([3]) تذكرة الحفاظ، 1/9.
([4]) ينظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/188؛ الخطيب البغدادي، تقييد العلم، ص52؛ الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/11.
([5]) كان ذلك في المدينة وشمل الصحابة الخارجين إلى الأمصار الإسلامية الجديدة كقول قرة بن كعب الانصاري لما طلب منه أن يحدث بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في العراق فقال: ((نهانا عمر)) فلم يحدث بعد ذلك بحديث. الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/12.
([6]) ابن سعد، الطبقات، 5/188.
([7]) ابن عبد البر، جامع بيان العلم، 1/275.
([8]) تقييد العلم، ص54.
([9]) سورة يوسف، آية3. ويبدو أن عبد الله بن مسعود التزم بوصية الخليفة عمر بن الخطاب عندما وجهه إلى العراق لتعليم أهله فقال: ((أني وجهتك معلماً ليس لك سوطٌ ولا عصا، فاقتصر على كتاب الله فإنه كفاك وإياهم))، وكيع، أخبار القضاة، 2/188.
ونحتمل أن هذا الالتزام كان في أيام عمر بن الخطاب فقط، فقد أُثر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يُحدّث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتركَ بعض المدونات بخط يده.
ابن ماجة، السنن، ص16 باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ح36، ابن عبد البر، جامع بيان العلم، 1/311.
([10]) الجلالي، تدوين السنة، ص412–413. مثل حديث الثقلين الذي تقدم توثيقه.
([11]) ابن كثير، البداية والنهاية، 8/206.
وقال الدارمي في شرح منع عمر عن الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما نصه: ((معناه عندي الحديث عن أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس السنن والفرائض)). سنن الدارمي، 1/85.
وقد علق الجلالي على ذلك قائلاً: ((وإن كانت أوامر المنع وإجراءاته عامة فلأن التدبير السياسي يقتضي منع الحديث بالعموم حتى يشمل المنع الأحاديث المضرة بالسياسة. وإنما لم يُخصّ المنع بما يضر دون غيره؛ لأن تخصيصها بالمنع يؤدي إلى وضوح الهدف من المنع، وانكشاف المصلحة الموضوعة له. والإعلان عن تلك المصلحة غير ممكن؛ لأنه يوجّه الانظار إليها بشكل أكثر تركيزاً فيوجب نقض الغرض المترقّب من المنع، ويعكس المصلحة إلى مفسدة لا تتدارك)). تدوين السنة، ص414.
([12]) الجلالي، تدوين السنة، ص414–415.
(13) لمزيد من الاطلاع ينظر: رواية فضائل الإمام علي (عليه السلام) والعوامل المؤثرة فيها، للدكتورة ختام راهي الحسناوي.