بقلم: أ. د. ختام راهي الحسناوي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام عل خير الخلق أجمعين محد وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
نستطيع من خلال تأمل النصوص الواردة عن مرحلة النزاع القائم بين الإمام علي ومعاوية قبيل صفين وبعدها أن نتبين عدة أمور:
الأمر الأول:
إن انتماء عدد من صحابة الإمام علي عليه السلام إلى صفهِ في النزاع مع معاوية كان مبنياً على وعي هؤلاء الأصحاب بفضل الإمام ومنزلته التي تجعله خياراً مرجحاً قبال معاوية بن أبي سفيان، وسنعرض كلمات بعضهم في هذا الشأن لتوضيح هذه الفكرة:
قال زياد بن النضر[1] للإمام علي وهو يحث الناس للخروج إلى صفين: ((... فتوكل على الله وثِقْ به، واشخص بنا إلى هذا العدو راشداً مُعانا؛ فإن يرد الله بهم خيراً لا يدعوك رغبةً عنك إلى مَنْ ليس مثلك في السابقة مع النبي صلى الله عليه وآله، والقدم في الإسلام، والقرابة من محمد صلى الله عليه وآله...))[2].
وبنى عمرو بن الحمق الخزاعي[3] محبته وولاءه وتفانيه في تأييده للإمام علي عليه السلام على مزاياه ومناقبه فقال: ((إني والله يا أمير المؤمنين ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك، ولا إرادة مالٍ تؤتينيه، ولا التماس سلطانٍ يُرفع ذكري به؛ ولكن أحببتك لخصالٍ خمس: إنك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، وأول مَنْ آمن به، وزوج سيدة نساء الأمة فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله، وأبو الذريّة التي بقيت فينا من رسول الله صلى الله عليه وآله، وأعظم رجل من المهاجرين سهماً في الجهاد، فلو أني كُلفت نقل الجبال الرواسي، ونزح البحور الطوامي حتى يأتي عليّ يومي في أمرٍ أقويّ به وليك وأوهن به عدوك، ما رأيت أني قد أديت فيه كل الذي يحقُّ عليّ من حقّك. فقال أمير المؤمنين عليّ:... ليت أن في جندي مائة مثلك))[4].
فهذه الطاعة المبدئية المبنية على الوعي بمكانة أمير المؤمنين عليه السلام وحقه على الأمة والياً وولياً هو ما كان يحتاجه الإمام علي عليه السلام لمواجهة بوادر الشك التي بدأت تعصف بالمجتمع الكوفي، الشك في صواب الموقف من معاوية، وقتال أهل الشام من أهل القبلة[5]، وهو ما كان يواجهه الإمام علي عليه السلام[6] وأصحابه[7] موضحين ما استبهم ومؤكدين أن معسكر معاوية أهل ضلالة، وقتالهم هدى وهداية، ومما استعان به صحابة الإمام علي في مواجهة شك الشاكين، فضائل الإمام علي؛ فقام سعيد بن قيس[8] يخطب في أصحابه عند استعدادهم للقاء أهل الشام:
((... فوالله... أن لو كان قائدنا حبشياً مجدّعاً، إلاّ أن معنا من البدريين سبعين رجلاً، لكان ينبغي لنا أن تَحسُن بصائرنا وتطيب أنفسنا. فكيف وإنما رئيسنا ابن عم نبينا، بدريٌّ صِدق، صلّى صغيراً، وجاهد مع نبيكم كبيراً. ومعاوية طليقٌ من وثاق الإسار، وابن طليق، ألا إنه أغوى جفاةً فأوردهم النار، وأورثهم العار...))[9].
وخطب مالك الأشتر[10] معولاً على ما عوّل عليه صاحبه وهو وجود البدريين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله في معسكر الإمام علي، ومزاياه وفضائله التي لا تقارن بمعاوية فقال: ((... ونرجو في قتالهم حسن الثواب، والأمن من العقاب، معنا ابن عمّ نبينا، وسيفٌ من سيوف الله، علي بن أبي طالب، صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وآله، لم يسبقه بالصلاة ذكر حتى كان شيخاً؛ لم يكن له صبوةٌ ولا نبوةُ ولا هفوة، فقيه في دين الله، عالم بحدود الله، ذو رأي أصيل، وصبر جميل، وعفاف قديم... وأعلموا أنكم على الحق، وأن القوم على الباطل يقاتلون مع معاوية، وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدري، ومن سوى ذلك من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أكثر ما معكم راياتٌ كانت مع رسول الله صلى الله عليه وآله... فما يشك في قتال هؤلاء إلاّ ميت القلب...))[11].
وكان الإمام عليّ يدعم مواقف أصحابه من ذوي البصائر[12]، ويواجه شكوك بعض أفراد معسكره، وتضليل معاوية بالتذكير بفضائله، وبرواية أحاديث النبي صلى الله عليه وآله التي نصبته مناراً للهدى، فخطب الناس بصفين قائلاً: ((... وقد عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله عهداً فلستُ أحيد عنه، وقد حضرتم عدوّكم وقد علمتم مَنْ رئيسُهم، منافق ابن منافق يدعوهم إلى النار، وابن عمّ نبيكم معكم بين أظهركم يدعوكم إلى الجنة وإلى طاعة ربكم، ويعمل بـ سنة نبيكم صلى الله عليه وآله. فلا سواءٌ مَنْ صلّى قبل كل ذكر. لم يسبقني بصلاتي مع رسول الله صلى الله عليه وآله أحد، وأنا من أهل بدر، ومعاوية طليقٌ وابن طليق... والذي نفسي بيده لنظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله أضرب قدّامه بسيفي فقال: ((لا سيف إلاّ ذو الفقار، ولا فتى إلاّ عليّ)). وقال: ((يا علي، أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي، وموتك وحياتك يا عليُّ معي)) والله ما كذبت ولا كُذِبت، ولا ضللتُ ولا ضُلّ بي، وما نسيتُ ما عَهِد إليّ، وإني لعلى بينة من ربّي، وإني لعلى الطريق الواضح ألفظه لفظاً))[13].[14].
الهوامش:
[1] أبو الأوبر الحارث: صحابي سكن الكوفة، وهو ممن خرج من أهل الكوفة على عثمان، صحب الإمام علياً عليه السلام، وحضر معه صفين، وكان فارساً شجاعاً مطاعاً في قومه.
لمزيد ينظر: ابن حجر الاصابة، 1/581؛ الأميني، أصحاب الإمام أمير المؤمنين، 1/230.
[2] المنقري، صفين، ص101–102، وينظر في المعنى نفسه قول هاشم بن عتبة، المصدر نفسه، ص112.
[3] له صحبة، هاجر بعد الحديبية، سكن الشام ثم الكوفة، كان ممن قام على عثمان مع أهلها، شهد مع الإمام علي حروبه ثم قدم مصر، كان من أعوان حجر بن عدي فلما قُبض على حجر، وأرسل إلى معاوية توجه إلى الموصل، فنهشته حية فمات، ثم قطع عامل الموصل رأسه وبعث به إلى زياد فأرسله زياد إلى معاوية سنة 50هـ/670م أو 51هـ/671م وكان أول رأس أُهدي في الإسلام.
ابن عبد البر، الاستيعاب، 2/524؛ ابن حجر، الاصابة، 2/524.
[4] المنقري، صفين، ص103–104.
[5] على سبيل المثال لا الحصر: عندما أجاب الناس الإمام علياً للسير إلى جهاد معاوية أتاه أصحاب عبد الله بن مسعود فقالوا له: إنا نخرج معكم، ولا ننزل عسكركم... وأتاه آخرون، فيهم ربيع ابن خُثيم وهم يومئذ أربعمائة رجل، فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا شككنا في هذا القتال على معرفتنا بفضلك. المنقري، صفين، ص115؛ وينظر لأمثلة أخرى ص185، ص215. وقال الإمام في وجوب لزوم البصيرة: ((قد فُتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة، ولا يحمل هذا العلم إلاّ أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحق، فامضوا لما تؤمرون...)). نهج البلاغة، ص305–306. خطبة رقم 173.
[6] جاء رجل إلى الإمام علي فقال: ((يا أمير المؤمنين، هؤلاء القوم الذين نقاتلهم: الدعوةُ واحدةٌ، والرسول واحد، والصلاة واحدة، والحج واحد فبم نسميهم؟ قال: نسميهم بما سمّاهم الله في كتابه... قال: [تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ] إلى قوله [وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ]. فلما وقع الاختلاف كنا نحن أولى بالكتاب وبالنبي وبالحق. فنحن الذين آمنوا، وهم الذين كفروا، وشاء الله قتالهم فقاتلناهم هدىً، بمشيئة الله ربنا وإرادته)).
المنقري، وقعة صفين، ص322–323.
وقال الإمام علي في جواب لآخر: ((... لقد أهمني هذا الأمر وأسهرني، وضربتُ أنفه وعينه، فلم أجد إلاّ القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد صلّى الله عليه. إن الله تبارك وتعالى لم يرضَ من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوتٌ مذعنون، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهوّن عليّ من معالجة الأغلال في جهنم)).
المنقري، صفين، ص474. وباختلاف في الألفاظ نصوص أخرى في: نهج البلاغة، ص85 الخطبة رقم 43، ص93 الخطبة رقم 53.
[7] وقال عمار بن ياسر من كلام طويل له مع أحد الشاكين: ((... أما أنهم سيضربوننا بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون منكم فيقولون: لو لم يكونوا على حقٍ ما ظهروا علينا. والله ما هم من الحق على ما يُقذى عينَ ذباب. واللهِ لو ضربونا بأسيافهم حتى يُبلغونا سعفات هجر لعرفت أنّا على حق وهم على باطل...)). المنقري، وقعة صفين، ص322.
[8] الهمداني من كبار التابعين ورؤسائهم وزهادهم، كان سيد همدان والمطاع فيها، حضر الجمل وصفين مع الإمام علي وله مواقف مشهودة فيها، صحب الإمام الحسن عليه السلام بعد ذلك وكان أحد قياديي جيشه الزاحف لملاقاة معاوية توفي بعد صلح الحسن بزمان يسير.
ينظر: المصدر نفسه، ص437؛ الدينوري، الأخبار الطوال، ص209، 216، 253، ص290، 298–299، 313؛ العطار، مقدمة ديوان سعيد بن قيس الهمداني، ص7–65.
[9] المنقري، صفين، ص236–237.
[10] ابن النخع من مذحج، كان رئيس قومه، شهد اليرموك فذهبت عينه، له في فتوح الشام مواقف مذكورة، صحب الإمام علياً عليه السلام وشهد معه الجمل وصفين ثم ولاّه على مصر فمات في الطريق إليها.
ابن سعد، الطبقات، 6/213؛ ابن حجر، الاصابة، 3/482.
[11] المنقري، صفين، ص238–239.
ولمزيد من مواقف آخرين ينظر: المصدر نفسه، ص318، ص338، ص464.
[12] ورد مصطلح (ذوو البصائر من أصحاب عليّ) عند: المنقري، صفين، ص167.
وأهل البصائر: تعبير إسلامي يعود إلى صدر الإسلام يراد به المؤمنون الواعون الذين يتخذون مواقفهم السياسية وغيرها نتيجة لقناعات مستوحاة من المبدأ الإسلامي، ولا تتصل بالاعتبارات النفعية. ومن المؤكد أن هذا التعبير غدا في وقت مبكر جداً مصطلحاً ثقافياً إسلامياً يعني: الفئة المؤمنة الواعية للإسلام على الوجه الصحيح والملتزمة بالإسلام في حياتها بشكل دقيق، بحيث أنها تتخذ مواقف مبدئية من المشاكل الاجتماعية والسياسية التي تواجهها في الحياة والمجتمع فلا تُصغي إلى الاعتبارات الشخصية والقبلية، فضلاً عن أنها لا تقف على الحياد أمام هذه المشكلات، وإنما تعبر عن التزامها النظري بالممارسة اليومية للنضال ضد الانحرافات.
للتفصيل والتوسع ينظر: شمس الدين، أنصار الحسين، ص165–170؛ شمس الدين، حركة التاريخ، ص58.
[13] المنقري، صفين، ص314–315. وفي نهج البلاغة، ص172، خطبة رقم 96 وردت العبارة الأخيرة من الخطبة أعلاه هكذا: «وإنّي لعلى بينةٍ من ربّي، ومنهاجٍ من نبيي، وإني لعلى الطريق الواضح ألقُطُهُ لَقطاً» واللقط: هو أخذ الشيء من الأرض.
[14] لمزيد من الاطلاع ينظر: رواية فضائل الإمام علي عليه السلام والعوامل المؤثرة فيها (المراحل والتحديات)، الدكتورة ختام راهي الحسناوي، ص 56-61.