بقلم: محمد حمزة الخفاجي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
هنالك تساؤلات كثيرة حول سبب اختياره (صلوات الله وسلامه عليه) على سائر الرسل بل على جميع الخلائق فهل اختاره سبحانه في عالم الدنيا فقط؟ أم وقع الاختيار عليه في جميع العوالم؟.
فهذه التساؤلات سنجيب عليها إن شاء الله من خلال هذا المقال.
قال تعالى:
﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[1].
اصطفى سبحانه هؤلاء الأطهار وفضلهم على سائر خلقه، وجعل بيوتهم مهبط وحيه ثم اختار منهم محمداً (صلى الله عليه وآله) خاتم الرسل وسيد الخلق من الأولين والآخرين، قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
«وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه الَمْجُتْبَىَ مِنْ خَلَائِقِه.. والْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالَاتِه»[2].
ومعنى اجتباه أي اختاره واصطفاه على جميع الرسل، قال تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾[3]، ومن كتاب له (عليه السلام) لأهل مصر قال فيه:
«بَعَثَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ ومُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ»[4].
ورد في اللغة (المُهَيْمنُ اسم من أَسماء الله تعالى، وفي التنزيل: ومُهَيْمِناً عليه؛ قال بعضهم: معناه الشاهد، وقيل بمعنى مُؤتَمَن، وأَما قول عباس بن عبد المطلب في شعره يمدح النبي (صلى الله عليه وآله):
حتى احْتَوَى بَيْتُكَ المُهَيْمِنُ من خِنْدِفَ، عَلْياءَ تحتَها النُّطُقُ
فإِن القتيبي قال: معناه حتى احتويتَ يا مُهَيْمِنُ من خِنْدِفَ علياء؛ يريد به النبي (صلى الله عليه وآله)، فأَقام البيت مقامه لأَن البيت إذا حَلَّ بهذا المكان فقد حَلَّ به صاحبُه؛ قال الأَزهري: وأَراد ببيته شَرَفَه، والمهيمن من نعته كأَنه قال: حتى احْتَوى شَرَفُك الشاهدُ على فضلك علياءَ الشَّرَفِ من نسب ذوي خِنْدِف أَي ذِرْوَةَ الشَّرَف من نسبهم التي تحتها النُّطُقُ، وهي أَوساطُ الجبال العالية)[5].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
«إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم»[6].
فمن ذرية ابراهيم اختار سبحانه إسماعيل (صلى الله عليه وآله): وهو الابن الأكبر لإبراهيم الخليل (عليه السلام) وأمه هاجر، أما اسحاق فأُمه سارة، قال تعالى حاكيا عن نبي الله ابراهيم بقوله:
«الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ»[7].
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول انا ابن الذبيحين، يعني اسماعيل وعبد الله وفي خبر طويل عن الإمام الرضا (عليه السلام) ان العلة في دفع الله الذبح عن اسماعيل وعبد الله كون النبي والعترة في صلبهم فببركة النبي والأئمة دفع الله الذبح عنهما[8].
وقد ورث اسماعيل من أبيه ابراهيم ميراث النبوة وآثار علمه ثم لا زالت تنتقل في ابناء إسماعيل (عليه السلام) حتى انتقلت في بني هاشم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
«ان إسماعيل صلوات الله عليه توفي، وهو ابن مائة وثلاثين سنة، ودفن بالحجر مع أمه، فلم يزل بنو إسماعيل ولاة الأمر يقيمون للناس حجهم وأمر دينهم يتوارثونها كابرا عن كابر حتى كان زمن عدنان بن أدد»[9].
وهذه السلسلة في الاصطفاء توضح عظيم منزلته عند الله؛ فمن بين الأكرمين والطيبين من الخلق اختاره الله؛ وكان هذا الاختيار قبل عالم الدنيا ومن الروايات التي تؤكد ذلك ما روي في الخصال، عن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، قال:
«إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد (صلى الله عليه وآله) قبل أن خلق السماوات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار، وقبل أن خلق آدم ونوحا وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وداود وسليمان، وكل من قال الله (عز وجل) في قوله ﴿ووهبنا له إسحاق ويعقوب - إلى قوله - وهديناهم إلى صراط مستقيم﴾، وقبل أن خلق الأنبياء كلهم بأربع مائة ألف وأربع وعشرين ألف سنة .....»[10].
توضح الرواية أفضليته (صلوات الله عليه) على سائر الرسل وفضله عليهم، كذلك توضح عظيم قدره فلا يوجد مخلوق أقدس من النبي وأعظم منه عند الله، وكان سبب تفضيله على سائر الخلق أنه (صلوات الله وسلامه عليه) كان الأقرب إلى الله والأسرع بالتلبية.
جاء في كتاب الاحتجاج في خطبة الزهراء عليها السلام في المسجد النبوي:
«وأشهد أن أبي محمدا عبده ورسوله اختاره قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه»[11].
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
«إن بعض قريش قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله): بأي شيء سبقت الأنبياء وفضلت عليهم وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت أول من أقر بربي جل جلاله، وأول من أجاب، حيث أخذ الله ميثاق النبيين، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فكنت أول نبي قال: (بلى) فسبقتهم إلى الاقرار بالله (عز وجل)»[12].
فكما عرفنا طاعته في عالم الدنيا وامتثاله لأوامر الله كذلك في تلك العوالم كان مطيعا، لذا نال الأولوية والأفضلية والقربى حتى صار الأقرب إلى الله روحاً وجسداً.
وقبل أن يخلقنا الله (عز وجل) بهذا الخلق وكنا ذراً أخذ سبحانه علينا الميثاق وأشهدنا بوحدانيته فأقررنا جميعنا فميز الله الرسل والأنبياء والأوصياء وبقية العباد، ثم ميز سبحانه محمد (صلى الله عليه وآله) على سائر الخلق كونه السابق بالتلبية لله الواحد الأحد، يروى أنه (أتاه ابن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الله تبارك وتعالى هل كلم أحدا من ولد آدم قبل موسى؟ فقال علي [عليه السلام]: قد كلم الله جميع خلقه برهم وفاجرهم، وردوا عليه الجواب، فثقل ذلك على ابن الكواء ولم يعرفه، فقال له: كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال له: أوما تقرأ كتاب الله اذ يقول لنبيه:
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾[13]، فقد أسمعهم كلامه وردوا عليه الجواب كما تسمع في قول الله يا بن الكواء (قالوا بلى) فقال لهم: إني أنا الله لا إله إلا أنا وأنا الرحمن الرحيم ـ فأقروا له بالطاعة والربوبية، وميز الرسل والأنبياء والأوصياء، وأمر الخلق بطاعتهم فأقروا بذلك في الميثاق، فقالت الملائكة عند إقرارهم بذلك: شهدنا عليكم يا بني آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)[14].
ظاهر الرواية تبين أن جميع الناس أقروا لله بالربوبية وللأنبياء والحجج بالطاعة ولكن الله بعلمه علم ان أكثر الناس أقروا بالظاهر ولكنهم أخفوا ما كانوا يضمرون لذا اشهد عليهم الملائكة، ومن كلام للإمام يوضح فيه ان العباد بدلوا ذلك العهد المأخوذ منهم في السابق قوله (عليه السلام):
«لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِه عَهْدَ الله إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّه واتَّخَذُوا الأَنْدَادَ مَعَه».
و(المراد بعهد الله هنا ميثاق الفطرة الذي أشار اليه الإمام (عليه السلام) بقوله:
«ليستأدوهم ميثاق فطرته»)[15]. فذلك العهد الذي أُخذ منهم هو حجة عليهم يوم القيامة، فمن بقي ووفى بعهده سيدخله الله فسيح جناته، أما من بدل وكفر بعد ذلك سيعذبه الله عذابا أليما[16].
الهوامش:
[1] آل عمران: 33.
[2] الخطبة: 178، ص257.
[3] يوسف: 6.
[4] نهج البلاغة، الكتاب: 62.
[5] لسان العرب، ج13، ص436.
[6] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة السيد حبيب الله الخوئي – ج7 ص56.
[7] ابراهيم: 39.
[8] ينظر تفسير نور الثقلين، ج4، ص431.
[9] قصص الانبياء، الراوندي، ص116.
[10] الخصال، الشيخ الصدوق، ص482.
[11] الاحتجاج الشيخ الطبرسي، ج1، ص133.
[12] بحار الانوار العلامة المجلسي، ج15، ص13، ح21.
[13] الأعراف: 172.
[14] تفسير العياشي، ج2، ص24.
[15] في ظلال نهج البلاغة، ج1، ص58.
[16] لمزيد من الاطلاع ينظر: الشجرة النبوية في نهج البلاغة، للباحث محمد حمزة الخفاجي، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص70 – 74.