بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل
((الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:
قوله عليه السلام: « خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ وَقَوَّى بِهِ حُجَّتَهُ فَوَعَظَ وَنَصَحَ»
وبهذه الدَّلالة ورد هذا الفعل «وعظ» في الخطبة مرَّةً واحدةً، أَورده أَميرُ المؤمنين (عليه السلام) في بيان صفات النَّبيِّ الأَكرم ــ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ــ في أَداء وظيفته، وهي النُّبوَّة، إذ قال (عليه السلام) : «وَشَهِدْتُ ببِعْثَةِ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ... بَعَثــَهُ فِيْ خَيْرِ عَصْرٍ... خَتَمَ بِهِ نـُبُوَّتَهُ، وَقَوَّى بِهِ حُجَّتَهُ، فَوَعَظَ وَنَصَحَ».
فإنــَّما جاء النَّبيُّ القائد محمَّد ــ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ــ واعظاً لـ:«إيقاظ النَّاس من غفلتهم بلطائف البيان، ومحاسن الكلام؛ ليرغبوا بالمعروف[1]، ويزهدوا بالذُّنوب والآثام... حثَّ النَّاس على حسنات الأَفعال، وزجرهم عن قبائحهم بالحسنات والسَّيِّئات الَّتي يعرفونها... وتذكيرهم بما ينسون أَو يتناسون... وتليين القلوب... وتوعية للعواطف»[2].
و«وعظ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمير مستتر، تقديره (هو)، عائد إلى النَّبيِّ ــ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ــ. وجملة (فوعظ) معطوفة على جملة (وقوَّى به حجَّته).
وممَّا تجدر الإشارة إليه أَنَّ أَمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أَنْ بيَّن بعثةَ النَّبيِّ الأَعظم ــ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ــ بـ(بعثه... ختم... قوَّى) شرع في بيان صفاته ــ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ــ في أَداء وظيفته، وهي النُّبوَّة، وكان ممَّا استعان به أَفعال أَربعة، وهي: (وَعَظَ)، و(نَصَحَ)، و(بَلَّغَ)، و(كَدَح).
نَصَحَ
تدلُّ مادَّة (نَصَحَ) في اللُّغة على الجودة، والخلوص بالعمل، والصِّدق، والإحكام، والنُّصح خلاف الغشِّ. جاء في (الصِّحاح في اللُّغة): «نَصحْتُك نُصْحاً ونَصاحَةً... وهو باللَّام أَفصح. قال الله تعالى: (وَأَنْصَحُ لَكُمْ)[3]. والاسم: النَّصيحة. والنَّصيح: النَّاصح. وقوم نُصَحَاء. ورجلٌ ناصحُ الجيب، أَيْ: نقيّ القلب. قال الأَصمعيّ: النَّاصح: الخالص من العسل وغيره، مثل النَّاصع. وكلُّ شيء خَلَصَ فقد نَصَحَ. وانتصح فلان، أَيْ: قبل النَّصيحة... ونصحت الإِبلُ الشربَ تنصحُ نُصوحاً، أَيْ: صَدَقتُهُ. وأَنصحتُها أَنا: أَرويتها. قال: ومنه التَّوبة النَّصوح، وهي الصَّادقة. والنَّصح بالفتح: مصدر قولك نصحتُ الثــَّوب: خِطتُهُ: ويقال منه التَّوبة النَّصوح...»[4].
وقال الرَّاغب: «النُّصحُ: تحرِّي فعلٍ أَو قول فيه صلاح صاحبه. قال تعالى: (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)الأعراف/79... وهو من قولهم: نَصَحتُ له الوُدَّ، أَيْ: أَخلصتُه، ونَاصحُ العسلِ: خالصه، أَو من قولهم: نَصَحْتُ الجلدَ: خِطْتُه، والنَّاصح: الخَّيَّاط، والنِّصاح: الخَيْطُ، وقوله: (تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) التحريم/ 8، فمن أَحد هذين؛ إمَّا الإخلاصُ، وإمَّا الإحكام» [5].
وجاء في (أَساس البلاغة): «نصحته ونصحت له نصحاً ونصيحة، وتنصَّحت له... وناصحته مناصحة. وناصح نفسه في التَّوبة إذا أَخلصها. واستنصحته وانتصحته... ومن المجاز هو ناصح الجيب، ونصح الغيب البلاد: جادها ووصل نبتها، وأَرض منصوحة. ونصحت الإبل الرَّيَّ: صدقته... ونصح الخَّيَّاط الثــَّوب، إذا أَنعم خياطته، ولم يترك فيه فتقًا، ولا خللاً؛ شُبِّه ذلك بالنُّصح»[6].
وبهذه الدَّلالة ورد هذا الفعل (نصح) في الخطبة مرَّةً واحدة؛ إذ قال أَمير المؤمنين (عليه السلام): «وَشَهِدْتُ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ... فَوَعَظ وَنَصَحَ».
و(نَصَحَ) هو الفعل الثــَّاني الَّذي أَورده أَمير المؤمنين (عليه السلام) لبيان صفات النَّبيِّ ــ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ــ في أَداء وظيفته ــ النُّبوَّة ــ إذ قال (عليه السلام): «وَشَهِدْتُ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ... بَعَثَهُ فِيْ خَيْرِ عَصْرٍ... خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ، وَقَوَّى بِهِ حُجَّتَهُ، فَوَعَظَ وَنَصَحَ...». فجاء هذا الفعل (نَصَحَ) مبيِّناً الفعل قبله (وعظ)، وتقدَّم أَنَّ الوعظ قد يكون بالنُّصح، فجاء ــ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ــ واعظاً بالنَّصيحة الحسنة، وكان ــ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ــ مخلصاً في وعظه، وكان وعظه محكماً، ليس فيه خرق ولا ثلمة، ولم يترك فيه ــ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ــ فتقاً، ولا خللاً.
وجاء هذا الفعل مجرَّداً ماضياً مبنيّاً على الفتح، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى رسول الله ــ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ــ وجملة (ونصح) معطوفة على جملة (فَوَعَظَ).)[7].
الهوامش:
[1]. الصواب: في المعروف.
[2]. محمد في القرآن: 212.
[3]. الأعراف: 62.
[4]. الصحاح في اللغة: 2/211.
[5]. مفردات ألفاظ القرآن: 808.
[6]. أساس البلاغة: 1/475. وينظر: العين: 1/192، وتهذيب اللغة: 2/14، ومعجم مقاييس اللغة: 5/348، والمحيط في اللغة: 1/193، والمخصص: 1/340، والمحكم والمحيط الأعظم: 1/465، ولسان العرب: 2/615، والقاموس المحيط: 1/238و 312، وتاج العروس: 1/1771.
[7] لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 137-139.