بقلم: الباحثة إيناس عبد براك الحدراوي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
تختص بعض الحروف بالدخول على مخصوصات كلامية إسمية من ألفاظ ومركبات، فيتضام الحرف المختص مع مدخوله، ما يؤدي إلى سبك وتراص مفردات التركيب اللغوي، من ذلك «إنّ وأخواتها»، التي كان لها الأثر الواضح في التضام والاتساق الدلالي في خطب الحروب، كلُّ ذلك نجده في ضوء عملها المتخصص، وسنعرض ذلك عن طريق نصوص نهج البلاغة:
إنّ وأخـــــواتــــهــا: وهي من الحروف المختصة بالدخول على الأسماء، وهي في تضامها هذا مع الجملة الإسمية تنصب الأول اسماً لها، وترفع الثاني خبراً لها، وهذه الحروف- «إنّ، أنَّ كأنّ، لكنَّ، لعلّ، ليت» -«إنّما كان عملها بالاختصاص، وإذا لحقتها «ما» فارقها الاختصاص فينبغي ألّا تعمل إلّا ليت فإنّها تبقى على اختصاصها»[1]، وقد كثر استعمالها في خطب الحروب للإمام (عليه السلام) ولاسيما «إنّ» المؤكِّدة، منه قوله (عليه السلام):
«وَاللهِ مَا أَنْكَرُوا [عَلَيَّ] مُنْكَراً، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نِصْفاً، وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً [هُمْ] تَرَكُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَكُوهُ، فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا الطَّلِبَةُ إِلاَّ قِبَلَهُمْ، وَإِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي، مَا لَبَّسْتُ وَلاَ لُبِّسَ عَلَيَّ، وَإِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، فِيهَا الْحَمأُ وَالْحُمَةُ وَالشُّبْهَةُ الْمُغْدِفَةُ، وَإِنَّ الأمْرَ لَوَاضِحٌ، وَقَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغَبِهِ»[2].
يُلحظ في النّصِّ المتقدم تعالق نصّي مكثّف، يتجلّى في تضام «إنّ» الموكِّدة مع التراكيب الإسمية، وتلازمها معها؛ لبيان المقصود من المعنى العام؛ وذلك لأنّ مقام المتكلّم مقام شكٍّ؛ لذا غلب عليها سيطرة (إنَّ) المكسورة المؤكدة على النّصِّ من دون وجود (أنَّ) المفتوحة الهمزة؛ لأنّها تحتاج إلى تأكيد أقوى في ذلك السياق[3]، فقد كان معرض حديث الإمام (عليه السلام) هو التعريف بـ(الفئة الباغية)، ما أدى إلى إيصال المعنى متسقاً في ذهن المتلقي، فقد تكررت –«إنّ»- خمس مرات، ولم تأتِ في كلِّ تركيب من هذه التراكيب النصية منفصلة عن غيرها، وإنّما جاءت متعالقةً مع بعضها الآخر مبنى ومعنى، عن طريق تضافرها مع القرائن الأخرى؛ إذ تجد في قوله: «وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً [هُمْ] تَرَكُوهُ»؛ إنّ التضام لا يقتصر على اقتران المختص «إنّ» مع المخصوص «هم لَيَطْلُبُونَ»، وإنما يتعدى أثره في الاتساق بتماسك أجزاء النّصّ، وذلك بتعالق المبنى التركيبي «وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً [هُمْ] تَرَكُوهُ» بما قبله وما بعده، -كما سبق – عن طريق تضافره مع القرائن الأخرى، ومنها: الإحالة الضميرية «هم «المحيلة إلى الفئة الباغية، التي توافرت بكثافة في النّص، ومن ثم تعالق التركيب النصي المؤكد «وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً [هُمْ] تَرَكُوهُ» مع القسم المستهل به «والله»، وما لحقها من تراكيب منها «وَدَماً هُمْ سَفَكُوهُ» إشارة إلى دم عثمان، مستعينة في تضامها بحرف العطف «الواو» بغية إيصال المتلقي إلى المعرفة الحقيقية بهذه (الفئة الباغية)، ما يشدّ من عملية التواصل بينها؛ لانسجام الكلام مبنى ومعنى في ذهن المتلقي، ومن ثم إصغاؤه لما يقول.
ولم يخرج النّصّ عن بيان معنى (الفئة الباغية)، وما تحمله من الغلّ والفساد، بالرغم من التنويع في المدخولات الإسمية بين الأسماء الظاهرة «وَإِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ»، «وَإِنَّ الاْمْرَ لَوَاضِحٌ» والضمائر «وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً [هُمْ] تَرَكُوهُ»، «فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ»، «وَإِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ»، ومن ثم تنوّع الأخرى، فضلا عن تناول المتكلّم لمعانٍ فرعية منها تفريقه بين الحق والباطل، و تنزيه نفسه الشريفة عن هذه الفئة، فتضامّت جميعها، واتسقت في بيان المعنى العام، الذي بدا واضحا في ذهنه لا غبار عليه، «وَإِنَّ الاْمْرَ لَوَاضِحٌ وَقَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغَبِهِ»، فالبنية التركيبية –هنا- لا تحمل معنى الإخبار فحسب، إنّما الإخبار المؤكد بدخول حرف التوكيد «إنّ»، ومعروف «أنّ زيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى غالباً وتكثير اللفظ يؤدي إلى تقوية المعنى».
وقد ميّزت تأثيرها المعنوي بتغير حركة الاسم المخصوص، من الضم إلى الفتح، حتى بدت واضحة ومنسجمة في ذهن المتلقي، فجيء بـ«إنَّ» للتوكيد، وذلك بزيادة المعنى وتثبيته؛ لأنّه إذا كان المتلقي شاكَّا فيزيل هذا الحرف الشكّ عنه وهذا حال الأمة في مسألة التشكيك بأحقية الإمام علي (عليه السلام) وهكذا تعالقت الجمل الأخرى مع بعضها الآخر، وعمل حرف العطف «الواو» على زيادة تضامها واتساقها النصّي، علماً أنّ إخباره هذا كان على وفق العلامات التي أعلمه إياها رسول الله (صلى الله عليه وآله) «عن تلك الفئة، فهي معلومة سابقاً، وبمجرد تحققت بعض العلامات انكشف الأمر؛ لذا جاءت معرّفة بـ(ال)[4]، «وَإِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ»؛ لتُزيد الأمر تأكيداً؛ كونها تمثل بؤرة النّصّ الأساسية، ما منح النّصَّ قوة التضام والتماسك.
ويتبيّن من ذلك أنَّ «إنَّ» تتعامل في النّصِّ مع المتلقي الذي يكون على ثلاث حالات:
خالي الذهن = تركيب من دون «إنَّ».
المتلقي الشاكّ =إنَّ + التركيب لإزالة الشكّ.
المتلقي منكر = إنَّ وغيرها من المؤكدات كالقسم الذي يسبقها؛ لإزالة الإنكار + التركيب.
وحال الأمة (المتلقي) انقسم في هذه المسألة؛ لذلك أكد الإمام (عليه السلام) النّصَّ بتكرار «إنَّ» في تركيب المبتدأ والخبر([5]).
والحمد لله رب العالمين
الهوامش:
[1] ابن عصفور، شرح جمل الزجاج: 1/434.
[2] نهج البلاغة: 194، خطبة: 137، بتحقيق: صبحي الصالح، اعتمدت على تحقيقه في اختيار الخطب الحربية من النهج.
[3] فإضافة (إنّ) المكسورة نجد أنَّ المعنى قد تأكد وأصبح غير قابل للشكِّ من قبل المستمع، أمّا (أنَّ) المفتوحة المشددة، فهي أقل تأكيداً من المكسورة؛ لأنّها تتطلب «إيجاد عنصر لغوي قبلها، غالباً ما يكون فعلاً او ما هو من خصوصياته، نحو)لو) وتتحول الجملة من جملة قائمة بذاتها ذات معنى إلى جملة مؤولة بمفرد معمول لما سبقه» الصادق خليفة راشد، دور الحرف في أداء معنى الجملة: 183.
[4] ظ: ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 3/156.
[5] لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر القرائن العلائقية في اتساق النص في خطب نهج البلاغة خطب الحروب أنموذجا، ايناس عبد براك الحدراوي، ص53-57.