التناص مع الحديث النبوي الشريف في خطاب الإمام علي (عليه السلام)، التناص الأسلوبي انموذجاً

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

التناص مع الحديث النبوي الشريف في خطاب الإمام علي (عليه السلام)، التناص الأسلوبي انموذجاً

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 11-11-2020

بقلم: د. ستار قاسم عبد الله - جامعة البصرة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
لقد انتقى الامام (عليه السلام) المفردات التي تغني النسيج وتزيد في قيمته الفنية؛ لذا جاءت تناصاته حاملة لكثير من الرؤى الروحية والفكرية والدلالية العميقة. وهذا ما بدا جلياً في تناصاته (عليه السلام) مع الحديث النبوي الشريف واللافت للنظر إن ُجلّ التناصات مع الحديث النبوي الشريف كانت بطريقة التناص الامتصاصي، هذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على استيعاب الامام (عليه السلام) لمضامين الحديث النبوي؛ وبذلك جاءت مذابة في نصه بشكل يؤشر ثقافته المتميزة في هذا المجال بالإضافة الى ثقافته الموسوعية الاخرى ذلك (إن الكلمة هي مرآة الروح الانسانية ولذلك فإن كل كلمة تتعلق بنفس العالم الذي ترتبط به روح صاحبها. فالكلمات تتعلق بعوالم عديدة تكون علامة على ذلك الروح الذي لم ينحصر في عالم واحد، وحيث ان روح الامام لا تتحدد بعالم خاص، بل هو ذلك الانسان الكامل الجامع لجميع المراتب الانسانية والروحية والمعنوية فلا تختص كلماته ايضاً بعالم واحد. ان من مميزات كلام الامام عليه السلام انه ذو ابعاد متعددة وليس ذا بعد واحد)([1]).
ففي قول الامام (عليه السلام): (وامحض اخاك النصيحة حسنة كانت او قبيحة)([2]). النص يرشد إلى آداب جليلة توجب النصح للأخلّاء والأصدقاء ومن يطلبون المشورة، وهذا أدب رفيع، والامام في هذا القول يتكئ على قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أعن اخاك ظالماً او مظلوماً فان كان مظلوماً فخذ له بحقه، وان كان ظالماً فخذ له من نفسه)([3])، اذ تفاعل الامام (عليه السلام) مع الحديث النبوي الشريف واستطاع من خلال ذلك أن يبلور موقفه الفكري من خلال استلهام كلمات الحديث النبوي الشريف وتوظيفها في سياق حديثه؛ وذلك عن طريق استعمال اللفظة الموحية (فهي القياس الفني لتقدير قيمة اللفظ)([4]) اذ يلحظ على اسلوب الامام انه يتخير اللفظ الشريف والسبك المتين فيجعلها جزءاً من اسلوبه فكل نص من نصوص الامام يرتبط بسياق معرفي خاص به. وهو يمثل مضموناً فكرياً وثقافياً كبيراً ورصيد أمة بأكملها، مما يعطي للنص خصوصيته الإبلاغية والاقناعية.

وفي قوله (عليه السلام): (ما اقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى)([5]) الذي يرشد الى آداب جليلة بان يكون الانسان على وتيرة واحدة من السلوك، وأن لا يخضع سلوكه لظروفه الذاتية؛ لأن ذلك محط ذم وتقريع، والامام في هذا يستثمر مضمون الحديث النبوي الشريف الذي يقول:(ما اقبح الفقر بعد الغنى، واقبح الخطيئة بعد المسكنة، واقبح من ذلك العابد لله ثم يدع عبادته)([6]).
لقد حقق الامام في هذا النص التناص الاسلوبي مع قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن (الوظيفة التي يحققها التناص الاسلوبي تكمن في محاولته نقل المتلقي الى اجواء النص المستحضر كله بحيث يشعر المتلقي وكانّه أمام هذا النص مباشرة من دون ان يكون هناك وسيط بينهما، وذلك على الرغم من تباعد الزمان والمكان)([7]).  فنجد في قول الامام السابق (اسس الحياة حيث المجتمع الكامل في اوفى معنى واقصر تعبير)([8]). لقد جمعت كلمات الامام أفصح لفظ الى اتم تركيب انها من مفاخر الادب العربي وقد شكلت هذه السمات قيمة فنية لا يمكن للنص ان يستغني عنها دون ان يفقد بعضاً من براعته الفنية إذ (يندمج الشكل بالمعنى اندماج الحرارة بالنار، والضوء بالشمس والهواء بالهواء، فما انت ازاءه الا ما يكون المرء قبالة السيل اذ ينحدر، والبحر اذ يموج)([9]).

ونستطيع أن نتبين الالفاظ وسحرها وجمالها، فقد استطاع الامام(عليه السلام) بحسه اللطيف ان يؤشر المعالم الجوهرية في شؤون الحياة في محاولة منه للارتفاع بالجمهور الى المثل العليا تمشياً مع روح العصر ومقتضياته واستطاع من خلال ذلك ان يضع دستوراً لحياة عقلية خصبة بينة القسمات والملامح، وذلك في نظم حسن وتأليف مختار يدل على براعة صاحبه وجودته الفنية, اذ يلحظ المتلقي ان الامام (عليه السلام) ينشد الكمال في التعبير مراعياً في ذلك حجم الظروف الفكرية والثقافية والاجتماعية المحيطة بإنتاج النص ولعل خير ما يجسد ذلك قوله (عليه السلام): (فليعمل العامل منكم في ايام مهله قبل ارهاق أجله وفي فراغه قبل أوان شغله، وفي متنفسه قبل أن يؤخذ بكظمه، وليمهد لنفسه وقدمه، وليتزود من دار ضعنه لدار اقامته)([10]). لقد حاول الامام الاشارة الى جملة من المقدمات الاساسية بغية الوصول الى نتائج حتمية إذ اختار الوسائل اللغوية بشكل يتناسب والمضمون الفكري للنص الذي يحمل طابعاً خطابياً بلغ الغاية في الحسن والنهاية في الجودة، والامام في ذلك اخذ قوله من قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (ايها الناس إن لكم معالم فانتهوا الى معالمكم وإن لكم غاية فانتهوا الى غايتكم، إن المؤمن بين مخافتين: بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع به، واجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم ومن الحياة قبل الموت، فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب وما بعد الدنيا من دار الا الجنة او النار)([11]). تتبدى فاعلية التناص عند الامام في امتصاص قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو من ابدع ما قيل في هذا المعنى، (فكل نمط من أنماط كلامه شاهد له بالملكة الموهوبة في قدرة الوعي وقدرة التعبير)([12])، لقد حاول الإمام (عليه السلام) في خطابه الوعي بالمشكلات الكبرى التي تهدد كيان الامة وسعى جاهداً لأن يضع الحلول الناجعة لتلك المشكلات وبذلك مثل خطابه أرقى مظهرا فكريا بوصفه نمط الابداع الامثل (فالشيء غير الطبيعي الخارج عن العرف في اي عمل هو الذي يشد الانتباه اكثر من الاشياء الاخرى)([13]) وهذا ما تجسد في خطاب الامام اذ انه يلتمس المعنى المصيب واللفظ المتخير يقوده في ذلك بصر محكم تُميّز به المعاني والالفاظ بعضها من بعض، في قول يكشف عن سلوكية أخلاقية عالية في الإفصاح عن الحق وفي إجادة وصفه، فهو لا يضل الطريق في الوصول الى المعاني الكبار ([14]).

الهوامش:
([1]) في رحاب نهج البلاغة: 28.
([2]) بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 8/320.
([3]) صحيح البخاري، ابو عبد الله محمد بن اسماعيل بن ابراهيم، ط1، دار الفكر للطباعة بيروت، 1981م:3/98.
([4]) الصورة الفنية في المثل القرآني، دراسة نقدية بلاغية، محمد حسين الصغير، دار الرشيد، بغداد، 1981م:25.
([5]) بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 8/328.
([6]) الكافي 2/84 .
([7]) التناص بين النظرية والتطبيق، البياتي انموذجاً: 216.
([8]) ملامح من عبقرية الامام علي:19.
([9]) روائع نهج البلاغة: 27.
([10]) شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 6/413.
([11]) الكافي: 2/70
([12]) عبقرية الامام علي: 145.
([13]) بلاغة النور جماليات النص القرآني: نفيد كرماني، ترجمة: محمد احمد منصور، محمد عجاج احمد عبد الغني، معوض محمد سالم يوسف، مراجعة سعيد الغانمي، منشورات الجمل:147 .
([14]) لمزيد من الاطلاع ينظر: ملامح الخطاب النقدي في شروح نهج البلاغة، للدكتور ستار قاسم عبد الله، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص72 – 75.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2592 Seconds