من خصائص نهج البلاغة...

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من خصائص نهج البلاغة...

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 24-09-2021

8- النقد
ثانيًا: النقد الأدبي

بقلم: الدكتور علي الفتال

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
من خلال قراءتي ((نهج البلاغة)) بتأملٍ وتأنٍ ورويَّة، وجدت في محتواه خصائص هي بمجموعها تشكل قوانين الحياة بمفاصلها الحيوية، وأنا بتحديدي تلك الخصائص لا يعني ذلك أنني توفرت على خصائص ((النهج)) كلها بل هي بعض ما تراءى لي بعد قراءتي المتأنية تلك. لذلك أطلقتُ عليها ((من خصائص))، والتبعيض هذا الذي دلّت عليه الأداة (مِن) يعني أن ثمة خصائص أخرى يضمها كلام علي عليه السلام فاكتفيت بالذي وجدت.
وإليك قارئي العزيز هذه الخصائص
ب. النقد الأدبي
على الرغم من صخب عصر الأمام، وما كانت تكتنفه من أحداث عصفت بكثير من دعائم الدين، بسبب أدعياء الدين الإسلامي (وقد أشرنا إلى ذلك في مكان آخر).. نقول: على الرغم من انشغال الإمام علي عليه السلام المكثف في أمور حكمه لكنه عليه السلام، كان يقتنص الفرصة ليزيح عن أصحابه شيئاً من هموم السياسة، ولأنه الخطيب الذي لا يشق له غبار والأديب الذي لا يُبارى، فقد انبرى عليه السلام للنظر في شعر بعض الشعراء، كما ألمح إلى بعض النقد الأدبي لتكتمل في شخصيته مقومات القائد الذي عليه أن يلمَّ بمفردات الحياة كلها؛ فقد أخبرنا ابن أبي الحديد  (20/153-154):
إن علي بن أبي طالب عليه السلام كان يعشِّي الناس في شهر رمضان باللحم ولا يتعشى معهم، فإذا فرغوا خطبهم ووعظهم، فأفاضوا ليلة في الشعراء وهم على عشائهم، فلما فرغوا خطبهم عليه السلام وقال في خطبته:
- اعلموا أن ملاك أمركم الدين، وعصمتكم التقوى، وزينتكم الأدب، وحصون أعراضكم الحلم.
ثم قال:
- يا أبا الأسود؛ فيم كنتم تفيضون فيه؟ أي الشعراء أشعر؟
فقال:
- يا أمير المؤمنين، الذي يقول:

ولقد أغتدي يدافع ركني      أعوجيٌ ذوميـعة إضريجِ
مِخلـطٌ مِزيـلٌ مِقـنٌ           مِنفح مِطرح سَبُوحَ خروجِ

يعني أبا دواد الأيادي.
فقال عليه السلام: ليس به
قالوا: فمن يا أمير المؤمنين؟
فقال:
- لورفعت للقوم غاية (راية) فجروا إليها معاً علمنا من السابق منهم، ولكن إن يكن فالذي لم يقل عن رغبة ولا رهبة.
قيل:
من هويا أمير المؤمنين؟
قال:
هوالملك الضليل ذوالقروح
قيل:
امرؤ القيس يا أمير المؤمنين؟
قال:
- هو.
وفي نظرة نقدية بليغة من حيث ضغط كلماتها وتكثيف معانيها قال الإمام علي عليه السلام:
((خير الشعر ما كان مثلاً، وخير الأمثال ما لم يكن شعراً)).
في الواقع إن الشعر لوكان مثلاً أضفى على سِمتِهِ ميزتين، ميزة الوزن والموسيقى، وميزة الحكمة والمدلول، على أن يكون ذلك غير مصنوع وغير متكلف.
أما قوله عليه السلام (خير الأمثال ما لم يكن شعراً) فلأن المثل (يؤدي معنىً كبيراً بألفاظ قليلة، واضحة، وقيود الشعر - من وزن وقافية - قد تؤثر على وضوح الفكرة وإلى زيادة ألفاظ المثل).
وقال عليه السلام:
(لا تؤاخِ شاعراً فإنه يمدحك بثمن ويهجوك مجاناً)
ويريد الإمام عليه السلام: الشاعر المحترف الذي يقول الشعر للتكسب لا الشاعر الذي يريد التعبير عما يختلج في داخله من تجربة عاشها بصدق.
وقال عليه السلام:
((تعلموا شعر أبي طالب وعلموه أولادكم فإنه كان على دين الله، وفيه علم كثير))
وأحسب إن دعوة الإمام تعلم شعر أبي طالب نابعة من نظرة نقدية صائبة؛ باعتبار إنه شعر ملتزم.
ومعروف إن الالتزام في الشعر من الأمور الجليلة في الأدب.
روى ابن رشيق القيروان في كتاب العمدة: أن أعرابياً وقف على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال:
((إن لي إليك حاجة رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك، فإن قضيتها حمدت الله تعالى وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله وعذرتك.
فقال له علي:
خط حاجتك في الأرض فإني أرى الضر عليك.
فكتب الأعرابي على الأرض: إني فقير
فقال علي: يا قنبر، ارفع إليه حلتي الفلانية:
فلما أخذها مثل بين يديه وقال:

كسوتني حلةً تبلى محاسنها                  وسوف أكسوك من حسن الثنا حللا
إن الثناء ليحيي ذكر صاحبه                 كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا
لا تزهد الدهر في عرف بدأت به            فكل عبدٍ سيجزى بالذي فعلا
فقال علي:
- يا قنبر، أعطه خمسين ديناراً؛ أما الحلة فلمسألتك وأما الدنانير فلأدبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول ((أنزلوا الناس منازلهم)).
وتلك الرواية تدل على نظرة الإمام علي عليه السلام النقدية للشعر، إذ ما أن سمع أبيات الأعرابي حتى اهتز لها طرباً وإعجاباً وعبّر عن ذلك بإعطائه خمسين ديناراً.
وما تمثل به الإمام عليه السلام من شعر أثناء خطبه وأحاديثه ومراسلاته ووصاياه إلا دليل على حسّه النقدي وذوقه الأدبي الرفيع، ولولا خشية التطوال لأوردت عينات كثيرة من نقده الأدبي وهي مبثوثة في أجزاء (النهج) بشرح ابن أبي الحديد، ولكنني أكتفي بهذا لأنتقل إلى فقرة أخرى من الخصائص. ([1]).

الهوامش:
[1] لمزيد من الاطلاع ينظر: أضواء على نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية، د. علي الفتال، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ج1، ص 286 - 290.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2766 Seconds