بقلم: الدكتور علي الفتال
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
من خلال قراءتي ((نهج البلاغة)) بتأملٍ وتأنٍ ورويَّة، وجدت في محتواه خصائص هي بمجموعها تشكل قوانين الحياة بمفاصلها الحيوية، وأنا بتحديدي تلك الخصائص لا يعني ذلك أنني توفرت على خصائص ((النهج)) كلها بل هي بعض ما تراءى لي بعد قراءتي المتأنية تلك. لذلك أطلقتُ عليها ((من خصائص))، والتبعيض هذا الذي دلّت عليه الأداة (مِن) يعني أن ثمة خصائص أخرى يضمها كلام علي عليه السلام فاكتفيت بالذي وجدت.
وإليك قارئي العزيز هذه الخصائص:
قال ذعلبة اليماني للإمام علي عليه السلام: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟
فقال عليه السلام: أفأعبد ما لا أرى؟؟
فقال ذُعلبة: وكيف تراه؟
قال الإمام عليه السلام: لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين، متكلم لا بروية، مريد لا بهمة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء (الخشونة) بصير لا يوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنوا الوجوه لعظمته، وتجب (تخفق) القلوب من مخافته ومن خطبة له عليه السلام في التوحيد، وتجمع هذه الخطبة من أصول ما لا تجمعه خطبه، قال عليه السلام:
((ما وحّده من كيّفه، ولا حقيقته أصاب من مثّله، ولا إياه عنى من شبّهه، ولا صمده (قصده) من أشار إليه وتوهّمه، كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدِّر لا بجول فِكرة، غني لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات، ولا ترفده (تعينه) الأدوات، سبق الأوقات كونُه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر (إحساس) له، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادَّ النور بالظلمة، والوضح بالبُهم، والجمود بالبلل، والحرور بالصرد (البرد)، مؤلف بين متعادياتها (عناصرها) مقارن بين متبايناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها، لا يُشمل بحدٍّ، ولا يُحسَب بعدٍّ، وإنما تحدُّ الأدوات نفسها، وتشير الآلة إلى نظائرها، منعتها (منذ) القدمية، وحمتها (قد..) الأزلية، وجنبتها (لولا..) التكملة، (منذ، وقد، ولولا، فواعل للأفعال قبلها) بها تجلّى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السكون والحركة، وكيف يجري عليه ما هوأجراه؟ ويحدث فيه ما هوأحدثه؟ إذن لتقارنت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه، ولكان له وراء إذ وُجد له أمام، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، إذان لقامت آية المصنوع فيه، ولتحوَّل دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره، ولم يلد فيكون مولوداً، ولم يولد فيصير محدوداً، جلَّ عن اتخاذ الأبناء، وطهر عن ملامسة النساء، لا تناله الأوهام فتقدِّره، ولا تتوهمه الفِطن فتصوّره، ولا تدركه الحواس فتحسّه، لا يتغير بحال، ولا يتبدل بالأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيّره الضياء والظلام، ولا يوصف بشيء من الأجزاء، ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعَرَضٍ من الأعراض، ولا بالغيرية والأبعاض، ولا يقال له حدٌّ ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية، ولا أن الأشياء تحويه فيقلّه، أوتهويه (ترفعه وتسقطه) أوأن شيئاً يحمله فيميله ويعدّلهَ، ليس في الأشياء بوالج (داخل) ولا عنها بخارج، يخبر لا بلسان ولهوات (جمع لهات: لحمة في سقف أقصى الفم) ويسمع لا بخروف وأدوات، يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفظ (لا يتكلف الحفظ)، ويريد ولا يضمر، يحب ويرضى من غير رقّة، ويبغض ويغضب من غير مشقة، يقول لمن أراد كونُهُ كن فيكون، لا بصوت يُقرع ولا بنداء يُسمع، وإنما كلامه سبحانه، فعلٌ منه أنشأه، ومثله لم يكن من قبل ذلك ممكناً، ولوكان قديماً لكان إلهاً ثانياً.
لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفات المحدثات ولا يكون بينها وبينه فصل، ولا له عليها فضل، فيستوي الصانع والمصنوع، ويتكافأ المبتدئ والبديع، خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره، ولم يستعن على خلقها بأحدٍ من خلقه، وأنشأ الأرض فأمسكها، من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصّنها من الأوَد والاعوجاج، ومنعها من التهافت والانفراج، (التساقط والانشقاق)، أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها، وخدّ (شق) أوديتها، فلم يضعف ما بناه ولا ضعف ما قواه، هوالظاهر عليها سلطانه وعظمته، وهوالباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي على كل شيء منها بجلاله وعزته، لا يُعجِزُهُ شيء منها طلبه، ولا يمتنع عليه فيغلبه، ولا يفوته السريع منها، فيسبقه، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه، خضعت الأشياء له، وذلت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضرِّه، ولا كفؤ له فيكافئه، ولا نظير له فيساويه، هوالمغني لها بعد وجودها، حتى يصير موجودها كمنقودها، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها، وكيف لواجتمع جميع حيوانها، من طيرها وبهائمها، وما كان من مراحها وسائمها، وأصناف أسناخها وأجناسها، ومتبلدة أممها وأكياسها على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها، ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت، وعجزت قواها وتناهت، ورجعت خاسئة (ذليلة) حسيرة (قاصرة) عارفة بأنها مقهورة مقرَّة بالعجز من إنشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها.
وإن الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت ولا مكان، ولا حين ولا زمان، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات، فلا شيء إلا الواحد القهار، الذي إليه مصير جميع الأمور، بلا قدرة منها ما خلقه وبرّأه، ولم يكونها لتشديد سلطان، ولا خوف من زمان ونقصان ولا للاستعانة بها على ندٍ مكاثر ولا للاحتراز بها في ملكه، ولا لمكاثرة شريك في شركة، ولا لوحشةٍ كانت منه فأراد أن يستأنس إليها، ثم هويفنيها بعد تكوينها لا لسأم دخل عليه في تصريفها وتدبيرها، ولا لراحةٍ واصلةٍ إليه، ولا لثقل شيءٍ منها عليه، لم يُجلّه طول بقائها فيدعوه إلى سرعة إفنائها، لكنه، سبحانه، دبّرها بلطفه، وأمسكها بأمره، وأتقنها بقدرته، ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها، ولا الاستعانة بشيء منها عليها، ولا لانصرافٍ من حال وحشةٍ إلى حال استئناس، ولا من حال جهل وعمى إلى حال علم والتماس، ولا من فقرٍ وحاجةٍ إلى غنى وكثرة، ولا من ذلٍّ وضعة إلى عزٍّ وقدرة))([1]).
الهوامش:
[1] لمزيد من الاطلاع ينظر: أضواء على نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية، د. علي الفتال، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ج1، ص 320 - 324.