بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل – الجامعة المستنصرية
((الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:
قوله (عليه السلام): «عَلِمَ فَسَتَرَ»
عَلِمَ
جاء في (العين): «عَلِمَ يَعْلَمُ عِلْماً، نقيض الجَهل. ورجل علاَّمة، وعلاَّم، وعليم... إِذَا بَالَغْتَ فِي وَصْفِهِ بالعِلْم أَيْ: عَالِمٌ جِدًّا... وما عَلِمْتُ بخبرك، أَيْ: ما شعرت به. وأَعلمته بكذا، أَيْ: أَشْعَرْتُه، وعلَّمته تعليماً»[1].
والعلم في اللُّغة بمعنى المعرفة، يُقال: عَلِمْتُ الشَّيء أَعْلَمُهُ عِلْماً: عرفتُه، وعَلَّمَهُ العلم وأَعْلَمَهُ إيَّاه فتعلَّمَهُ، وَفرَّق سِيبَوَيْه بَينهمَا، فَقَالَ: «وقد يجيء (فعَّلتُ وأَفْعَلْتُ) في معنى واحدٍ مشتركين، كما جاء فيما صيَّرته فاعلاً ونحوه؛ وذلك: وعَّزتُ إليه وأَوعزتُ إليه، وخبَّرتُ وأَخْبَرتُ... وقد يجيئان مفترقين، مثل علَّمتُه وأَعْلَمتُه، فعَلَّمتُ: أَدَّبْتُ، وأَعْلَمتُ: آذنتُ، وأَذَّنتُ: أَعْلَمْتُ، وأَذَّنْتُ: النِّداء والتَّصويت بإعلانٍ، وبعض العرب يجري أَذَّنتُ وآذنْتُ مجرى: سمَّيْتُ وأَسْمَيْتُ»[2].
وفرَّق أَبو هلال العسكريّ بين (العلم)، و(المعرفة) وذلك في قوله: «إنَّ المعرفة أَخصُّ من العلم؛ لأَنــَّها علم بعين الشَّيء عمَّا سواه، والعلم يكون مجملاً ومفصَّلاً»[3].
وقال الرَّاغب: «العلم: إدراك الشَّيء بحقيقته، وذلك ضربان: أَحدهما: إدراك ذات الشَّيء. والثــَّاني: الحكم على الشَّيء بوجود شيء هو موجودٌ له، أَو نفي شيء هو منفيٌّ عنه. فالأَوَّل هو المتعدِّي إلى مفعول واحد... والثــَّاني: المتعدِّي إلى مفعولين... والعِلْمُ من وجه ضربان: نظريٌّ وعمليٌّ. فالنَّظريُّ: ما إذا عُلِمَ فقد كمل، نحو: العلم بموجودات العالَم. والعمليُّ: ما لا يتمُّ إلاَّ بأَنْ يعمل كالعلم بالعبادات. ومن وجه آخر ضربان: عقليٌّ وسمعيٌّ، وأَعْلَمْتُهُ وعَلَّمْتُهُ في الأَصل واحد، إلاَّ أَنَّ الإعلام اختصَّ بما كان بإخبار سريع، والتَّعْلِيمُ اختصَّ بما يكون بتكريرٍ وتكثيرٍ حتى يحصل منه أَثر في نفس المُتَعَلِّمِ...» [4].
وعُرِّف العلم اصطلاحاً بأَنــَّه: «الاعتقاد الجازم المطابق للواقع»[5].
وورد هذا الفعل «عَلِم» مرَّةً واحدةً في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، قابل فيها أَمير المؤمنين بينه وبين فعل آخر، وهو «سَتَرَ»، فقال (عليه السلام): «عَلِمَ فَسَتَرَ»، وسيأْتي الكلام ــ إنْ شاء الله تعالى ــ على دلالة الفعل «سَتَرَ» ــ، وقد تقدَّم أَنَّ العطف بالفاء يفيد التَّرتيب باتِّصال، أَيْ: بلا مهلة، وهو المعبَّر عنه بالتَّعقيب، وكثيراً ما تقتضي السَّبب إنْ كان المعطوف جملة[6]، وكذا هي الحال في الخطبة؛ إذ قال أَمير المؤمنين (عليه السلام): «عَلِمَ فَسَتَرَ»؛ فـ«عَلِمَ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمير مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله تبارك وتعالى، والفاء عاطفة، و(سَتَرَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمير مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، والجملة الفعليَّة (سَتَرَ) معطوفة على الجملة الفعليَّة (عَلِمَ).
فالله ــ تبارك وتعالى ــ عالم بما كان، وما يكون قبل كَوْنِهِ، وبما يكون، ولمَّا يكن، وما يكون، ولا تخفى عليه خافية لا في الأَرض، ولا في السَّماء، أَحاط علمه بجميع الأَشياء، باطنها وظاهرها، وخفيِّها وجليِّها، علم أَتمّ الإمكان[7].
سَتَرَ
تدلُّ مادَّة «سَتَرَ» في اللُّغة على التَّغطية، والإخفاء. جاء في (معجم مقاييس اللُّغة): «السِّين والتَّاء والرَّاء كلمةٌ تدلُّ على الغطاءِ. تقول: سترت الشَّيء ستراً. والسُّتْرَة: ما استترت به، كائناً ما كان، وكذلك السِّتَار»[8].
ويُقال: «سَتَرَ الشَّيءَ يَسْتُرُه ويَسْتِرُه سَتْراً وسَتَراً: أَخفاه... والسَّتر، بِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ سَتَرْت الشَّيْءَ أَسْتُرُه إِذا غَطَّيْته فاسْتَتَر هُوَ، وتَسَتَّرَ، أَيْ: تَغَطَّى. وجاريةٌ مُسَتَّرَةٌ، أَيْ: مُخَدَّرَةٌ... . وَيُقال: استَتَر، وانْسَتَر، وتَسَتَّر... والسِّتْرُ: مَا سُتِرَ بِهِ، وَالْجَمْعُ أَسْتار...»[9].
وبيَّن أَبو هلال العسكريّ (السِّتر) حين فرَّق بينه وبين (الغطاء) بقوله: «إنَّ السّتْر مَا يسترك عَن غَيْرك، وَإِنْ لم يكن ملاصقاً لَك، مثل الْحَائِط والجبل، والغطاء لا يكون إِلاَّ ملاصقاً؛ أَلا ترى أَنَّك تَقول: تستَّرت بالحيطان وَلا تَقول: تغطَّيت بالحيطان، وَإِنــَّمَا تغطَّيت بالثــِّياب؛ لأَنــَّهَا ملاصقة لَك، والغشاء أَيْضًا لا يكون إِلاَّ ملاصقاً»[10].
وجاء هذا الفعل «سَتَرَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، قابل فيها أَمير المؤمنين (عليه السلام) بينه وبين الفعل «علم»، فالله ــ تبارك وتعالى ــ عالم بما كان، وما يكون قبل كَوْنِه، ولا تخفى عليه خافية في السَّماوات ولا في الأَرض؛ فهو المحيط بجميع الأَشياء، باطنها وظاهرها، خفيِّها وجليِّها؛ ولذا يستر على عباده، وهذا مصداق من مصاديق رحمة الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ ؛ فالله ــ تبارك وتعالى ــ مع علمه بكلِّ ما يصدر عن عباده من ذنوب ومعاصٍ، فهو يستر عليها، ويغطِّيها بمنِّه ورحمته، فهو السَّاتر والسَّتَّار، ويحبُّ السَّتر)[11].
الهوامش:
[1]. العين 2/ 152.
[2]. الكتاب 4/62.
[3]. الفروق اللغوية: 62.
[4]. مفردات ألفاظ القرآن: 580.
[5]. التعريفات: 199.
[6]. ينظر: الفعل (عَدَلَ) من الكتاب.
[7]. ينظر: لسان العرب 15/416، وتاج العروس 8/407.
[8]. معجم مقاييس اللغة 3/ 102.
[9]. لسان العرب 4/343. وينظر: العين: 2/59، وجمهرة اللغة: 1/185، وتهذيب اللغة: 4/270، والصحاح في اللغة: 1/302، والمحيط:2/254، وتاج العروس:1/2921.
[10]. الفروق اللغوية: 238.
[11] لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 68-72