من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام قوله: «ويَرْزُقُ عَبْدَهُ وَيَحْبُوهُ»

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام قوله: «ويَرْزُقُ عَبْدَهُ وَيَحْبُوهُ»

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 13-02-2023

بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل – الجامعة المستنصرية

((الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي: «ويَرْزُقُ عَبْدَهُ وَيَحْبُوهُ »

يَرْزُقُ
تدلُّ مادَّة «رزق» في اللُّغة على العطاء. يُقال: رزق الله يَرزُقُ العباد رزقاً، أَيْ: اعتمدوا عليه[1].
وقال ابن فارس: «الرَّاء والزاء والقاف أُصَيْلٌ واحدٌ يدلُّ على عَطاء الوَقت، ثم يُحمَل عليه غير الموقوت. فالرِّزْق: عَطاء الله ــ جلَّ ثناؤُه ــ. ويقال رَزَقه الله رِزْقاً»[2].
والرِّزْقُ: ما يُنْتَفَعُ به والجمع الأَرزاق. والرِّزْقُ: العطاء، ومصدر قولك: رَزَقَهُ الله، وقد يُسَمَّى المطر رَزْقاً، وهو اتِّساعٌ في اللُّغة[3].
وقال الرَّاغب: «الرِّزْقُ يُقال للعطاء الجاري تارةً، دنيويّاً كان أَم أُخرويّاً، وللنَّصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويُتَغَذَّى به تارةً، يُقال: أَعطى السَّلطان رِزْقَ الجند، ورُزِقْتُ علماً...»[4].
وقال الفيوميّ: «رَزَقَ الله الخلق يَرْزُقُهُمْ، والرِّزق بالكسر اسم للمرزوق، والجمع (الأَرْزَاقُ)، مثل: (حمل وأَحمال)، وارْتَزَقَ القوم: أَخذوا أَرْزَاقَهُمْ فهم مُرْتَزِقَة»[5].
وقال الزَّبيديّ: «الرِّزْقُ، بالكَسْرِ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وقِيلَ: هُوَ مَا يَسُوقُه اللهُ إلى الحَيَوانِ للتَّغَذي، أَيْ: مَا بِهِ قِوامُ الجسمِ ونَماؤه، وعندَ المُعْتَزِلَة: مملوكٌ يَأْكُلُه المُسْتَحِقُ فَلا يَكُونُ حَراماً، كالمُرتَزَقِ على صِيغَةِ المَفْعُول... والأَرزاقُ نَوعانِ: ظاهِرَة للأَبْدانِ، كالأَقْواتِ، وباطِنَةٌ للقُلُوبِ والنُّفوسِ، كالمَعارِف والعُلُوم. وقالَ بَعضهم: الرَّزْقُ بالفَتْح: المَصْدَرُ الحَقِيقِيُّ، وبالكَسْرِ الاسْمُ، وَقد رُزِقَ الخَلْقُ رَزْقاً ورِزْقاً، والمَرَّةُ الواحِدَة مِنْهُ بهاءً»[6].
و«الرَّازِقُ» و«الرَّزَّاقُ» في صفة الله ــ تبارك وتعالى ــ، فهو ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ خالق الرِّزق ومعطيه، والمسبِّب له، ويُقال: للإنسان الذي يصير سبباً في وصول الرزق، والرَّازقُ لا يقال إلاَّ لله تعالى؛ فهو خالق الأَرزاق، ومعطي الخلائق أَرزاقها، وموصلها إليهم[7]. فهو ــ تبارك وتعالى ــ المختصُّ بالرِّزق، يرزق ما لا يقدر على ذلك غيره؛ فهو الأَصل في الرِّزق، وغيره إنــَّما يرزق بتمكين الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ له؛ لأَنَّ الرِّزق كلَّه من جهة الله ــ تعالى ــ. والمخلوق ينقل الرِّزق من يده إلى يد غيره، لا أَنــَّه يفعل الرِّزق، والمخلوق إذا رزق غيره بمشيئة الله ــ تعالى ــ فإنــَّما يرزقه لانتفاعه بما يرزق؛ إمَّا لأَجل أَنْ يخرج عن الواجب، وإمَّا لأَجل أَنْ يستحقَّ به ثناءً وحمداً، وإمَّا لوقوعه تحت تأثير الشَّفقة والعطف على المرزوق. فالعبد يرزق، ويطلب العوض، أَمَّا الحقُّ ــ سبحانه ــ، فإنَّ كماله صفة ذاتيَّة له، فلا يستفيد من شيءٍ... فكان الرِّزق الصَّادر عنه لمحض الإحسان. والمخلوق يرزق لو حصل في قلبه إرادة الفعل، وتلك الإرادة من الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ ؛ ولذا فلا رازق على الحقيقة إلاَّ الله ــ تبارك وتعالى ــ، والمرزوق كأَنــَّه تحت مِنَّة الرَّازق، ومِنَّة الرَّازق ــ لله تبارك وتعالى ــ أَسهل تحمُّلاً من مِنَّة المخلوق؛ فكان الله (خير الرَّازقين).
ثــُمَّ إنَّ المخلوق إذا رزق، فليس ذلك يعني تحقُّق الفائدة ممَّا رزق حتى يُمَكِّنَ الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ المرزوقَ الانتفاع ممَّا رزق، فَرِزْقُ المخلوق لابدَّ من أَنْ يكون مسبوقاً بِرِزْق الله ــ تعالى ــ، وملحوقاً به حتَّى يكون الانتفاع، على حين أَنَّ رِزْقَ الجليل القدير لا يحتاج إلى رِزْقِ غيره[8].
وبهذا المعنى ورد هذا الفعل «يرزق» مرَّةً واحدةً في الخطبة؛ إذ قال أَمير المؤمنين (عليه السلام) : «ويَرْزُقُ عَبْدَهُ وَيَحْبُوهُ»، والمراد بالرِّزق معناه الأَعمُّ، وهي النِّعم الظَّاهريَّة، كالمأكولات، والمشروبات، والملبوسات، والممتلكات، والمنكوحات، ومن النِّعم الباطنيَّة، كمحبَّة الله ــ تبارك وتعالى ــ، وأَوليائه، وأَنبيائه، وتهيُّؤ أَسباب العبادة، والإطاعة، وامتثال أَوامره ونواهيه[9].
وإنــَّما استعمل أَمير المؤمنين (عليه السلام) الفعل «يرزق»، ولم يستعمل فعلاً آخر؛ لما في دلالته من معنى نبيل، وهو إنَّ الرِّزق لا يكون إلاَّ حلالاً، وهذا ما أَشار إليه أَبو هلال العسكريّ حين فرَّق بين (الرِّزق) و(الحظ)، إذ قال: «الفرق بين الرِّزق والحظِّ: أَنَّ الرِّزق هو العطاء الجاري في الحكم على الإدرار؛ ولهذا يُقال: أَرزاق الجند؛ لأَنــَّها تجري على إدرار، والحظُّ لا يفيد هذا المعنى، وإنــَّما يفيد ارتفاع صاحبه به... قال بعضهم: يجوز أَنْ يجعل الله للعبد حظّاً في شيء، ثُمَّ يقطعه عنه، ويزيله مع حياته وبقائه، ولا يجوز أَنْ يقطع رزقه مع إحيائه... وكلُّ ما خلقه الله تعالى في الأَرض ممَّا يملك، فهو رزق للعباد في الجملة بدلالة قوله تعالى: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا)[10]، وإنْ كان رزقاً لهم في الجملة، فتفصيل قسمته على ما يصح ويجوز من الأَملاك؛ ولا يكون الحرام رزقاً؛ لأَنَّ الرِّزق هو العطاء الجاري في الحكم، وليس الحرام ممَّا حكم به، وما يفترسه الأَسد رِزْقٌ له بشرط غلبته عليه، كما أَنَّ غنيمة المشركين رِزْقٌ لنا بشرط غلبتنا عليه، والمشرك يملك ما في يده، أَمَّا إذا غلبناه عليه بَطُلَ مِلْكُه له، وصار رِزْقاً لنا، ولا يكون الرِّزق إلاَّ حلالاً، فأَمَّا قولهم رزقٌ حلال، فهو توكيد...»[11].
وأَشار إليه ــ أَيضاً ــ حين فرَّق بين (الرِّزق) و(الغذاء)، إذ قال: «الفرق بين الرِّزق والغذاء: أَنَّ الرِّزق اسم لما يملك صاحبه الانتفاع به، فلا يجوز منازعته فيه لكونه حلالاً له، ويجوز أَنْ يكون ما يغتذيه الإنسان حلالاً وحراماً؛ إذ ليس كلُّ ما يغتذيه الإنسان رزقاً له؛ أَلا ترى أَنــَّه يجوز أَنْ يغتذي بالسَّرقة، وليست السَّرقة رزقاً للسَّارق، ولو كانت رزقاً له لم يُذمَّ عليها وعلى النَّفقة منها، بل كان يحمد على ذلك والله تعالى مدح المؤمنين بإنفاقهم في قوله ــ تعالى ــ: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)[12]»[13].
 و(يرزق) فعل مضارع مرفوع ,وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمير مستتر فيه ,تقديره (هو) عائد الى الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ، و(عبده) مفعول به منصوب ,وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره وهو مضاف، والهاء ضمير متصل مبني على الضَّمِّ في محل جرٍّ بالإضافة ,وجملة (ويرزق عبده) معطوفة على جملة(يجيب دعوة من يدعوه)»[14].

الهوامش:
[1]. ينظر: العين: 1/384، والمحيط في اللغة: 1/452.
[2]. معجم مقاييس اللغة: 2/319.
[3]. ينظر: الصحاح في اللغة: 1/252. وينظر: جمهرة اللغة: 1/383.
[4]. مفردات ألفاظ القرآن: 351.
[5]. المصباح المنير: 1/225.
[6]. تاج العروس: 1/6326.
[7]. ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 351، والنهاية في غريب الحديث والأثر: 2/30، ولسان العرب: 10/115.
[8]. ينظر: التفسير الكبير: 23/58 و59.
[9]. ينظر: مفتاح الفلاح في شرح دعاء الصباح: 167.
[10]. البقرة: 29.
[11]. الفروق اللغوية: 136 و137.
[12]. البقرة: 3، وتكرّرت في خمس آيات أُخر.
[13]. الفروق اللغوية: 137.
[14] لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 121-124.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3564 Seconds