بقلم: د. حسام عدنان الياسري.
الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانع كل غنيمة وفضل، وكاشف عظيمة وأزل، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الاطهار.
وبعد:
الشِّقْشِقَةُ لهاة البعير، ولا تكون إلاّ للعربي من الإبل كما يذكر اللغويون[1]. وذكر أبو عبيد القاسم بن سلام أنها شيء شبيه بالرئة تخرج من شدق الفحل من الإبل العراب إذا هدر[2]. ووصفت بانها جلدة رقيقة حمراء يخرجها البعير من جوفه، عندما ينفخ إذا هاج وهدر[3]. وقد استعمل الإمام لفظة (شِقْشِقَة) بصيغة المفرد والجمع على (شَقَاشِق) مرة واحدة لكل منهما في نهج البلاغة[4]؛ للدلالة على ما يخرجه البعير العراب من جلدة من جوفه. وذلك في سياق كلامه الذي يتحدث فيه عن أمر الخلافة وصبره عما جرى فيها، ثم مبايعة الناس له. إذ يقول في بعضٍ من هذهِ الخطبة: ((أَمَا وَالله لَقَدْ تَقَمَّصَها فُلانٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّيَ مِنهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَا، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ،... حَتَّى مَضَى الأولُ لِسَبِيلِهِ، فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فلان بَعْدَهُ فَيَا عَجَباً!! بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُها[5] في حَيَاتــِهِ إِذْ عَقَدَهَا لاخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ... فَصَيَّرَهَا في حَوْزَة[6] خَشْنَاءَ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا[7]... فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ، وَشِدَّةِ الْمحْنَةِ... أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَة، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ... لاَلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أولِها، وَلاَلفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ[8] عَنْزٍ[9]))[10]. فقام اليه رجل من أهل العراق عند بلوغه إلى هذا الموضع، وناوله كتاباً فيه مسائل يريد الاجابة عنها فقرأه الإمام. فلما فرغ منه. قال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت[11]. فقال: ((هَيْهَاتَ يَابْنَ عَبَّاس! تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ))[12].
وقد عبر (عليه السلام) عما في نفسه من كلام، واصفاً إياه بـ (شِقْشِقَة) البعير التي هدرت ثم قرت، أي رجعت إلى مستقرها. فكأن كل هذه الأمور التي مر بها الإمام وتكلم عنها للناس، أخرجها بهذه الكلمات الفصيحة البليغة. والشِقْشِقَةُ كما تقدمت أقوال اللغويين فيها جلدة، أو رئة تخرج من فم البعير حمراء اللون، ينفخ فيها البعير إذا هدر. والإمام إنما عبر عن كلمته التي ذكرها بـ (الشِقْشِقة)، لأنه أزهد من أن تأخذه الخلافة، وتستميله الدنيا اليها. ولهذا صرح في خاتمة كلامه بقول ((... وَلاَلفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز))[13]، فالدنيا عنده أشد هواناً من عطسة العنز. وعطسة العنز يصحبها الكثير من القذارة التي تخرج عادة من أنفها، وهو ما قصد اليه في وصفه (دنياهم) التي عبر عنها بضمير المخاطبين؛ اشارة إلى أنها لهم وليست له (عليه السلام). وعبر عنها بهذا التعبير للدلالة على ما يصحبها ويخرج منها من قذر تشمئز منه النفس وترغب عنه. ووصف كلامه بـ (الشِّقْشِقَة) فيه إشارة إلى فصاحته وبلاغة أقواله، فضلاً عن شرفه ورفعته، وقوة بأسه مما جعله مقدماً بين أقرانه، حتى فاق العرب في ذلك. ويمكن فهم ذلك من خلال مفردة (شِقْشِقَة)، فإنها لا تخرج إلا من فم البعير العراب الأصيل[14]. علامة على كثرة هدره وفحولته. فبقية الإبل غير الأصلية لا تهدر، أو أنها تهدر ولا تغط في الشقْشِقَة، لأنها لا شِقشِقَة لها[15]. فضلاً عن أن هدير الفحل دليل على غضبه واحتدامه، ولا يكون ذلك الاّ فيما يزعجه من الأحوال، فكأنه يستنكر ما يؤذيه ويمتعظ منه، فهديره كالكلام عند الإنسان. ولهذا وصف الخطيب الماهر بالكلام، الجهير الصوت بأنه ذو شِقْشِقَة[16]؛ لأن البعير إذا هدر، فقد بلغ أقصى غاية الفصاحة بالهدر؛ فإنهم لا يقولون: هَدَرَ البَعير إلا إذا أفصح في هدره. كما ينقل عن الأصمعي (ت 215 هـ)[17]. ومن هذا المعنى - فيما يبدو - قالوا: إن فلان شقْشقَةُ قَوْمه، بمعنى أنه شريفهم وفصيحهم[18]. كأنه واحد قومه الذي لا قرين له ولا نظير. وهذهِ المعاني والدلالات كلها تفيدها لفظة (شِقْشِقَة) الواردة في كلامه (عليه السلام) التي تحتمل هذه الإشارات الدلالية، فضلاً عما صنعه الإمام من جمعٍ بين الأصل والفرع في قوله: ((شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمّ قَرَّتْ))، فقد ناسبَ في هذا التعبيرَ بين مفردة (هَدَرَتْ)، وهي الأصل كما يفهم من كلام الدكتور إبراهيم السامرائي في فكرته هذهِ، وبين لفظة (شِقْشِقَة) وهي الفرع[19]، فكأنما الهدر هو الأصل؛ لأن به تخرج الشِقْشِقَة من فم البعير وهذا فيما أحسب من قبيل العلاقة بين السبب والمسبب.
أقول: وثمة موضع آخر استعمل فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) مفردة (شَقَاشِق) بصيغة الجمع للدلالة من يتزعم فتنة أهل الشام الذي تهدر شَقَاشِقُهُ، دلالة على أمره بانطلاق الفتنة وإقبالها على الناس، وذلك في (خ/101))([20]).
الهوامش:
[1] ينظر: العين (شقق): 5/7، ومقاييس اللغة (شقق): 3/172، والمحكم (شقق): 6/97، ولسان العرب (شقق): 10/185.
[2] ينظر: غريب الحديث (أبو عبيد): 3/297، ولسان العرب (شقق): 10/185.
[3] ينظر: تهذيب اللغة (شقق): 8/204، وجمهرة اللغة (شقق): 1/207، والنهاية في غريب الحديث: 2/490، وتاج العروس (سقف): 25/521.
[4] ينظر: المعجم المفهرس لنهج البلاغة: 242.
[5] يَسْتِقْيلُها، أي يطلب الإقالة منها. ينظر: لسان العرب (قيل): 11/579.
[6] الحَوْزُ ما يَحُوْزُهُ الرّجل من مَوْضِعٍ ويتخذه له جاعلاً حوله مُسّناة. ينظر: المحكم (حوز): 3/482.
[7] الكَلَمُ الجُرْحُ. وكَلَمُها جُرْحها. ينظر: العين (كلم): 5:378.
[8] العَفْطَةُ عَطْسُ الماعِزة. ينظر: لسان العرب (عفط): 7/353.
[9] نقلت المدونات اللغوية كلمة الإمام (عليه السلام) أعلاه ومنها لسان العرب (عفط): 7: 352.
[10] نهج البلاغة: خ/3: 28 – 33.
[11] نهج البلاغة: خ/3: 33، ومصادر نهج البلاغة وأسانيده: 1/107، 308.
[12] نفسه: خ/3: 33.
[13] نفسه.
[14] ينظر: العين (شقق): 5/7، وجمهرة اللغة (ششق): 1/207.
[15] ينظر: غريب الحديث (الخطابي): 1/411.
[16] ينظر: المحكم (شقق): 6/97، ولسان العرب (شقق): 10/185.
[17] ينظر: غريب الحديث (الخطابي): 1/411.
[18] ينظر: لسان العرب (شقق): 10/186.
[19] ينظر: مع نهج البلاغة: 244.
([20]) لمزيد من الاطلاع ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة: للدكتور حسام عدنان رحيم الياسري، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 61-64.