من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام دلالة الفعل ((نُشِّف)) في قوله عليه السلام: «وغُمِّضَ ومُدِّدَ وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ»

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام دلالة الفعل ((نُشِّف)) في قوله عليه السلام: «وغُمِّضَ ومُدِّدَ وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ»

79 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 02-03-2025

بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل

الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:

نُشِّف

تدلُّ مادَّة (نُشِّفَ) في اللُّغة على ذهاب الماء، واليبس. جاء في (العين): «النَّشْفُ: دخول الماء في الأَرض. والثــَّوب وغيره. نَشِفَت الأَرض الماء، ونَشِفَ الماء في الأَرض، سواء» [1].

وقال ابن فارس: «النُّون والشِّين والفاء: أَصل صحيح يدلُّ على ولوج ندىً في شيء يأْخذه. منه النَّشْفُ: دخول الماء في الثــَّوب والأَرض حتَّى يَنْتشْفَاهُ» [2].
ونَشِفَ الثــَّوبُ العَرَقَ، بالكسر، ونَشِفَ الحوضُ الماءَ يَنْشَفُهُ نَشْفاً: شربه. وتَنَشَّفَهُ كذلك. وأَرض نَشِفَةٌ: بَيِّنَةُ النَّشَّفِ، إذا كانت تَنْشَفُ الماء[3].

وقال ابن منظور: «نَشِفَ الماءُ يبس، ونَشِفَتْهُ الأَرضُ نَشْفاً، والاسم النَّشَفُ، ونَشَفَ الماءَ يَنْشِفُهُ نَشْفاً ونَشِفَهُ: أَخذه من غدير أَو غيره بخرقة أَو غيرها» [4].
وبهذا المعنى أَورد أَمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الفعل (نشف) مرَّتين في الخطبة. جاء في المرَّة الأُولى مبنيّاً للمجهول، وعلى زنة (فُعِّلَ)، وهو سادس الأَفعال الَّتي أَوردها أَمير المؤمنين (عليه السلام)  في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، فبعد أَنْ تُغمض عيناه، وتُمدَّ يداه ورجلاه، ويُوجَّه إلى القبلة، ويُجرَّد من ثيابه، ويُغسَّل بالأَغسال الثــَّلاثة، بعدها (يُنَشَّف) منها، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرَ عَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ».
وقد ذكر الفقهاء في رسائلهم العمليَّة في باب (تغسيل الميِّت) بعد أَنْ يُفرغ من تغسيله يُنشَّف بدنُ الميِّت بثوب نظيف أَو نحوه[5].

وما قيل في الفعل (جذبت نفسه) يقال ــ هنا ــ مع الفعل (نُشِّف) في بنائه للمجهول؛ فقد بني للمجهول لأَمرين. الأَوَّل: التَّركيز على الحدث، وهو تنشيف بدن الميِّت بثوب نظيف أَو غيره من الأَغسال الثــَّلاثة، والثــَّاني: أَنــَّه لا يُعْلَمُ مَنْ سَيُنَشِّفُ بدنَهُ، إلاِّ أَنــَّه أَمر حاصل لا محالة.

وكما ذكرتُ أَنَّ أَمير المؤمنين (عليه السلام) أَورد هذا الفعل على زنة (فُعِّل)، وتقدَّم أَنَّ العلماء ذكروا معاني لهذه الصِّيغة، منها: المبالغة والتَّكثير[6]، والجَعْل[7]، وكلا المعنيين وارد مع الفعل (نُشِّف)؛ فتنشيفُ بدنِ الميِّت من الأَغسال الثــَّلاثة يدلُّ على الكثرة والمبالغة؛ لِيُجْعَلَ ناشفاً لا ماء فيه، وهو معنىً تدلُّ عليه صيغة (فُعِّل)؛ فضلاً عن دلالتها على (الجعل)، أَيْ: جعل بدن الميِّت ناشفاً من الأَغسال الثــَّلاثة، غير مُبلَّل.
و(نُشِّف) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه)، وجملة (ونُشِّف) معطوفة على جملة (وغُسِّلَ).
أَمَّا في المرَّة الثــَّانية؛ فقد أَورده أَمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان ما يحصل على جسم الإنسان الميِّت في داخل القبر، وهو رابع الأَفعال الخمسة الَّتي أَوردها أَمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك، إذ قال (عليه السلام): «فَهُوَ حَشْوُ قَبْرٍ، وَرَهِيْنُ قَفْرٍ، يَسْعَى فِيْ جِسْمِهِ دُوْدُ قَبْرِهِ، وَيَسِيْلُ صَدِيْدُهُ مِنْ مِنْخَرِهِ، ويُسْحَقُ بَدَنُهُ وَلَحْمُهُ، وَيَنْشفُ دَمُهُ، وَيَرِمُّ عَظْمُهُ».
و(ينشف) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و(دمُه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمير متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه). وجملة (وينشف دمه) معطوفة على جملة (ويُسحَقُ بدنُه ولحمُه)([8]).

الهوامش:
[1]. العين: 2/8. وينظر: جمهرة اللغة: 1/489، وتهذيب اللغة: 4/110، والمحيط في اللغة: 2/172، والمخصص: 2/248، والعباب الزاخر: 2/21، والمصباح المنير: 9/302.
[2]. معجم مقاييس اللغة: 5/343.
[3]. ينظر: الصحاح في اللغة: 2/210، والقاموس المحيط: 2/432، وتاج العروس: 1/6137.
[4]. لسان العرب: 9/329.
[5]. ينظر: منهاج الصالحين (للخوئي): 78، وموجز الفتاوى المستنبطة: 96، ومنهج الصالحين (للسيد الصدر): 71، وسبل السلام (لليعقوبي): 109.
[6]. ينظر: الفعل (بَلَّغ) من الكتاب.
[7]. ينظر: الفعل (فرَّدته) من الكتاب.
([8]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص210-212.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3258 Seconds